هذا المقال محاولة لقراءة المجال العام كتعبير اجتماعي يعكس قيم المجتمع. المجال العام هنا يعني الأماكن العامة في أي مجتمع. الأماكن المملوكة للعموم، ولا تخضع لملكية خاصة. الشوارع، الحدائق، المستشفيات، مؤسسات الدولة، وسائل الإعلام العامة، مرافق الخدمات والمواصلات.. الخ، من المجالات العامة التي يشترك فيها الناس خارج ممتلكاتهم الخاصة. الأطروحة الأساسية هنا أن بعض المجالات العامة تبدو أكثر رحمة وشفقة بالناس من غيرها. في المقابل تبدو بعض المجالات الأخرى أقل رحمة وأشد قسوة وعنفا على الناس. المعيار الأساس في هذه المقارنة هو موقف هذه الأماكن من فئات المجتمع الأضعف والأقل حظا. موقف المجال العام من كبار السن والأطفال والفقراء والمعاقين سيكون المعيار الذي تتم من خلاله المقارنة بين المجالات العامة ورحمتها.

من خلال تجربتي المعيشية في أميركا لاحظت التالي في المجالات العامة. بشكل عام هناك حضور للمعاقين في تفكير مصممي المجال العام. ليس فقط في تخصيص مواقف للسيارات لهم، ولكن في تصميم البنية الأساسية للشوارع والأرصفة والبنايات. في الأرصفة هناك مناطق مصممة لمرور عربات المعاقين بسلاسة وبدون مساعدة خارجية. الأمر ذاته تجده في مداخل البنايات. في كثير من محلات التسوق هناك خدمة خاصة للمعاقين بحيث يخصص لهم موظفة أو موظف بتدريب خاص؛ لكي يرافقهم في عملية التسوق إلى نهايتها. مدن كثيرة توفر وسائل نقل مجانية مخصصة للمعاقين. يتصل الفرد على رقم محدد ليحدد موعدا للباص المخصص للمعاقين للمرور على مقر سكنه ونقله إلى المكان الذي يريده بالمجان.

بالنسبة للأطفال فإن الأحياء الأميركية تدخل في حالات طوارئ في فترات دخول وخروج الأطفال من المدارس. رقابة المرور على الشوارع ترتفع وعقوبات السرعة تتم مضاعفتها. توصيل الأطفال للمدارس يتم بطريقة حريصة على سلامتهم بحيث تتولى المدرسة تسلم الطفل من سيارة أهله أو من الباص، ومرافقته إلى أن يدخل المدرسة. في الخروج لا يتم إطلاق الطلاب عشوائية، بل يتم تنظيمهم حتى يتسلّم كل ولي أمر طفله أو يصعد للباص. هذه الإجراءات تتم في المدارس الحكومية المجانية. في الأحياء الفقيرة تقدم وجبات إفطار وغداء مجاني في المدارس، وفي الأحياء الغنية يتقدم من لا يستطيع الدفع بطلب يثبت ظروفه المالية لكي تقدم وجبات مجانية لطفله أو طفلته يوميا. بالنسبة لأطفال المهاجرين غير الشرعيين فإن المدارس الحكومية لديها قوانين وتعاليم دستورية مشددة بقبول هؤلاء الأطفال وتقديم التعليم لهم بالمساواة مع غيرهم من الطلاب. قوانين حقوق الطفل والعنف ضد الأطفال تلقى رعاية هائلة، ويعد اختراقها من الجرائم التي توجه لها العقوبات المشددة. من أوجه الرحمة بالأطفال كذلك الرقابة المشددة على العنف داخل المدارس، ومحاولة حماية الأطفال من تسلط بعضهم على بعض. كذلك الرقابة على المدارس من استغلال الطلاب لتحقيق أهداف أيديولوجية خاصة. 

بالنسبة لكبار السن تلاحظ في أماكن المراجعات الحكومية أن هناك موظفين خاصين لكبار السن وفي كثير من الأماكن التجارية تجد لهم أسعارا وتخفيضات خاصة. منذ زمن طويل كان لهم تأمين صحي يرعى احتياجاتهم الطبية. بالنسبة للتعليم العالي في أميركا قانون قديم يعطي الأولوية في القبول الجامعي للطلاب من السود أو النساء أو الأقليات بشكل عام. بمعنى أن الطالب الأسود لو تساوى مع الطالب الأبيض في معايير القبول كلها فإن للأسود الأولوية في القبول كمحاولة لتحسين وضع السود بشكل عام بعد قرون من التمييز العنصري ضدهم.

هذه أمثلة لمواقف المجتمع من فئات معينة داخله ستكون أقل حظا لو تركت حقوقها لصراع القوى. بمعنى أن هذه الفئات هي الأقل حضورا داخل دوائر التشريع، وداخل الحسابات السياسية والاقتصادية؛ بمعنى أن هذه الفئات يمكن تجاهلها وإبعادها عن الصورة كما حصل لهم طوال التاريخ ولا يزال يحصل في مجتمعات كثيرة. حضورهم في التفكير العام وترجمة هذا الحضور إلى واقع مشاهد وتجربة حية يعني أن الرحمة والعطف أصبحا جزءا من روح الفضاء العام.

المثال الأميركي ليس إلا مجرد مثال استحضرته من تجربتي الخاصة، وأنا متأكد أن هناك تجارب أفضل في مجتمعات أخرى، لكن المقصد الأساسي أن تقودنا هذه الأمثلة إلى التفكير مجددا في الفضاء العام الذي يجمعنا. المجال العام القاسي بدون رحمة مثل البيت القاسي لا رحمة. إنه باختصار يحيل الحياة إلى جحيم. لا ننسى أن المجال العام هو الأمل لكثير من البشر الذين رمتهم صدف الزمان في بيوت قاسية أو بيوت ضعيفة. المجال العام هو الأمل الذي يمكن أن يأخذ بكثير من الناس إلى فضاءات أفضل وأرحب. المكان العام هو وجه المجتمع وقلبه، وهو التعبير الأوضح عن ضميره الأخلاقي. الأماكن العامة النظيفة تعكس نظافة أعمق في قلوب الناس. المجال العام "الصحي" يعكس قيمة عميقة، وهي أن الناس تدرك حقيقة عيشها المشترك وتعكس قدرة الناس على رؤية الجميع وأولهم الضعفاء والأقل حظا. القوي يظهر نفسه وبوضوح وصوته يملأ الآفاق لكن الضعيف يحتاج إلى من يأخذ بيده ويقف معه. ينسى الناس أن الضعف جزء منهم وتعميهم القوة. المجال العام الرحيم مقاومة للنسيان ومنارة للأمل.