هدى مستور


طوابير طويلة لا تُرى نهايتها، جميع أفرادها في حالة سير حثيث، كانت بداياتهم واحدة، ثم اختلفت طرائقهم، ولتصاعد الغبار وحرارة الأنفاس وقصور الرؤية؛ فقد كان انكشاف السابق في الحظ والمتقدم في السير متعذرا. تنتهي رحلاتهم بأبواب موصدة دون عالم غامض مريب، من يلجه لا يعود. وبجوار الأبواب هناك مَن يقف ينظر إلى حقائبهم، التي ضاعفت من عنائهم في عبور رحلاتهم، ومما يؤسف له أنه قد لا يسمح لهم باصطحابها لعدم موافقتها للشروط!

هذه النهايات المخيبة للآمال، لم تمنع البقية من إكمال السير مشيا، وهم يحملون بأيديهم حقائبهم الكثيرة والمتنوعة ذات الأحجام المتفاوتة، وزاد من حدة توترهم صوت الحادي الذي يحثهم على العدو في المسير، على الرغم من الألم الذي يكاد يشل أطرافهم من جراء بطء الحركة وثقل الحمولات، وهم مع هذا لا يستطيعون الاستغناء عنها، للوهم بأنهم قد يحتاجونها في أثناء عبورهم طريق رحلتهم الثقيلة! أو ليس إلا لمجرد المفاخرة والمباهاة.

إن الخلود مستحيل، حقيقة قاسية يغفل عن مواجهتها الكثير، فيندفع صاحبها إلى التشبث بأعراض الدنيا، والتشبع من زينتها والإبقاء على صورتها، كصنيع الفراعنة في محاولة تخليد أجسادهم بتحنيطها.

ومما زاد الطين بلة –لا سيما مع توافر المال وهي مادة الاقتناء- أن انزلقت أقدام البعض في التهافت نحو الجديد، يقتنيه ثم ما يلبث أن يمله فيتخلص منه، ويتهافت من جديد نحو الأحدث، لا يفرق بين الحاجة الفعلية للشيء أو لمجرد الرغبة في امتلاكه؛ أو لمواكبة السائد، ومما يؤسف له أنها لم تعد دائرة واحدة بل دوائر استهلاكية لا نهاية لها عصفت بالعقول وبعثرت القيم قبل الأموال.

لا ينتهي فقد التوازن لدى اللاهث خلف الدنيا عند إجهاد قواه في الجمع والتحصيل، بل تقوده الرغبة الجامحة في الدنيا إلى أن يتنازل عن القيم ويبيع المبادئ، ويرتكب الحرام، ويستغل النفوذ، ويمارس الغش والتدليس، ويختلف مع القريب والبعيد لمزيد من التكاثر وجمع الحطام وتكديس المتاع، وأبعد النجعة في أن لا يتردد في التحالف مع الشيطان لأجل إفساد الأرض وإيقاد القتال وإشعال الحروب للتمكين والاستحواذ.

إن المكاثر يزداد ثقلا وانجذابا نحو أغلال الأرض، يجده في تعكر مزاجه وسرعة تململه، يحسه في ضيق صدره وكثرة تذمره، يلحظه في كثرة تنقله وتذوقه للذائذ عاجلة لا طعم لها. وكما قيل: إذا ترفه الجسد تعكرت الروح.

وفي السنوات المتأخرة تحولت وفرة المعلومة إلى مادة اقتناء جديدة تحشى بها حقائب المسافرين في رحلة الحياة؛ لا للهداية والدلالة بقدر ما هو للتصنيف والتعالم والمفاخرة.

إن داء التكاثر من أعراض الوله بغلاف الدنيا والانخداع بزينتها والوقوف عند خشبة مسرحها دون كشف سترها، والركون للعيش على نقاط العبور بعد أن منعهم قصور النظر من معاينة ما ينتظرهم بنهاية الرحلة شاءوا أم أبوا.

نحن لا ندعو للانقطاع والرهبنة وسكنى الكهوف، ومن الجناية أن نلمح بالدعوة للتشاؤم والقعود في انتظار لحظة الموت، إنما هي دعوة لإعادة تشكيل تصوراتنا وصياغة مفاهيمنا تجاه مجموعة من الحقائق الكونية الكبرى كحقيقة الدنيا وحقيقة الحياة فيها وحقيقة الآخرة وحقيقة العالم الغيبي الذي يفصل بينهما.

تعديل تصوراتنا نحو بعض المفاهيم، له بعد عميق في تزكية النفس وإلجام الأثرة.

مفهوم آخر يحتاج وعيا ومراجعة: إنه مفهوم الوفرة، الذي يعني صرف التركيز عما لا نملكه والاكتفاء بتقليب نظر القلب فيما نملكه في جوهرنا من روح وعاطفة وفكر...

الوفرة تقتضي تعديل موقفنا تجاه الأشياء، فبدلا من أن نسخر طاقاتنا وقوانا في توسيع دائرة الامتلاك وخدمة الأشياء من حولنا كان الأنسب أن نكتفي بما هو في حوزتنا ونسخر الأشياء في خدمتنا.