بعيدا عن الإعلام، وحبا في التركيز، وتمجيدا للصراحة عقدت في العاصمة (الرياض)، الأربعاء والخميس الماضيين؛ ورشة عمل مركزة بعنوان "اللحمة الوطنية وسبل تعزيزها"، بتنظيم عالي الجودة من القائمين على مركز الملك عبدالعزيز للحوار الوطني.. شخصيا شاركت ومنذ أحد عشر عاما، في خمس فعاليات للمركز، والحقيقة أن الفعالية الأخيرة -المركز سماها ورشة، وأنا أسميها حلقة- كانت الأكثر وطنية في نظري، الكل وحّدهم حس وطني رائع، لدرجة أن المداخلات كادت أن تكون متطابقة، والحقيقة أني لم أستغرب ذلك، فالهم العام واحد، والتحديات واحدة.
النقاشات كما أسلفت مغلقة، ومركزة، وبحسب هذه الطبيعة، فلن آتي ـ لا هنا ولا هناك ـ على ما دار في داخل القاعة من مناقشات ومداولات، رغم أن ما دار مشرف للغاية، ويبشر بصحة ما قاله المتنبي في شطر أحد أبيات قصيدته الشهيرة (أجاب دمعي): ".. فربما صحَّت الأجسامُ بالعللِ"، ويبشر كذلك بصحة ما نردده في المشهور من الأقوال: "رب ضارة نافعة"، و"رب محنة في طيها منحة".. لن آتي على التفاصيل، لكني لن أخفي قول أن بلادي الغالية، المملكة العربية السعودية، عانت منذ ستة وثلاثين عاما من حوالي أربعة وثمانين حادثا إرهابيا؛ كانت حادثة المهدي المزعوم في بيت الله الحرام بداية هذه الأعمال البغيضة، التي سكنت مدة خمسة عشر عاما، ثم توالت بعد ذلك، حتى إنها طافت على أغلب المدن السعودية، وتركز غالبها في عاصمة البلاد..
واضح تماما أن المملكة عانت -وللأسف الكبير- من عقوق بعض أبنائها، الذين استطاع الآخرون، وفي غفلة تامة منا؛ أن يستميلوهم لأن يكونوا ضد كل جميل، وأن يكونوا أدوات لأجندات خارجية وبعضها داخلي.. الغفلة الكبيرة، إضافة إلى تعاملاتنا المنفرة أفرزتا لنا منتجا بغيضا، هو في حقيقته امتداد لما كان، وانعكاس لما هو كائن.. كل بيت من بيوتنا، أو من بيوت من نعرف، ومن لا نعرف من جيراننا يعاني سرا أو جهرا من وجود من يصنف، ومن يقصي، ومن يلغي، ومن تطرف، ومن تشدد، ومن هو مرشح لما هو أكبر من ذلك، ومن يقول غير هذا فهو مجامل، ومن لا يعترف بذلك فهو مكابر، ومن لا يريد أن يسمع ذلك فهو من حيث يدري أو لا يدري على خطأ كبير.
لن أقول إن النداءات الوسطية المنتشرة الآن كان من المفترض أن تظهر منذ زمن بعيد، أو أنها تأخرت بعض الشيء، فالمهم عند العقلاء هو استمرار الجهود في إحداث تغيير حقيقي، ينظف بواطننا وعقولنا، عوضاً عن التعايش الصوري، والأهم أن يعرف كل منا أن دوره في تعزيز اللحمة الوطنية كبير، وأن وراءه دولة تحميه، وأنه تحت رايتها مدافع عنها، وأن يقتنع الجميع بأن الحق له عدة أوجه، وأن القداسة والوصاية مرفوضتان، وأن الناس شركاء في التشخيص، وشركاء في العلاج..
سأكون متفائلا هذه المرة أكثر من أي مناسبة مضت، لأن الجرح أصاب الكل، وأن هذا الكل واثق تمام الثقة في أن مركز الملك عبدالعزيز للحوار الوطني، وبما يملك من إمكانيات وعقول، لن يخذلهم أبدا في إيقاف نزفهم، وأنه لن يتأخر عن إخراج مبادرات وبرامج عمل تلم الشعث، وتصلح ذات البين، وتكون معينة لدولة كرمها الله بقبلة المسلمين، وحباها بقادة يغارون علينا، ويهمهم أمننا، وأماننا.