من منا من فاتته طائرة فقال: قدر الله وما شاء فعل؟ ومن منا من فاتته صلاة فجر أو صلاة في المسجد فقال: قدر الله وما شاء فعل؟ ومن منا من فاته الالتحاق بالجامعة في التخصص الذي يريد لتدني علاماته في المدرسة، فقال: قدر الله وما شاء فعل؟ ومن منا من فاته جل عمره يتنقل من فشل إلى فشل وهو يقول: قدر الله وما شاء فعل؟
كم كنت أجهل المعنى العميق لمفهوم القضاء والقدر قبل أن أبدأ رحلتي مع الذات، وكم كنت أحمل جملة "قدر الله وما شاء فعل" من تبعات أعمالي، ما كان يجب أن أتحمله أنا نتيجة خياراتي وقراراتي.
"قدر الله وما شاء فعل" أدركت أنها أصبحت عند كثيرين تبريرا لكل ما يحدث من سلبيات وفشل، بل ومدعاة للتقاعس والانهزامية والكسل.
نعم الإيمان بالقدر خيره وشره من أركان الإيمان، ولكن انحراف الفهم أدى إلى انحراف الأفعال وانحدار أمة الإسلام على قدر بعدها عن المفهوم الصحيح للقضاء والقدر، فالقدر هو أعمال العبد التي سيفعلها في المستقبل، وينتقل بها العبد باختياراته المختلفة وإرادته هو، ولكن بعلم الله السابق الأزلي، فالأقدار تتبدل وتتغير وتتقدم وتتأخر بأفعال المخلوق (لمن شاء منكم أن يتقدم أو يتأخر)، فقد شاء الخالق -سبحانه- أن يجعل التقدم والتأخر رهينة لمشيئة العبد، والأقدار دروب عملية متوازية أو متعاكسة لا يمكن أن يسلكها الإنسان في آن واحد (إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا).
يقول سبحانه وتعالى: (إن سعيكم لشتى? فأما من أعطى? واتقى? وصدق بالحسنى? فسنيسره لليسرى?، وأما من بخل واستغنى?، وكذب بالحسنى? فسنيسره للعسرى?). فإما أن يسلك العبد أقدار العطاء والتقوى والصدق فييسر لليسرى أي الجنة، وإما أن يسلك أقدار البخل والاستغناء والكذب فييسر للعسرى أي النار، طريقان متوازيان زمانيا متعاكسان في الوجهة والمصير.
وأثناء بحثي فهمت الفرق بين القضاء والقدر، فالقدر هو الكيفية، أما القضاء فهو النتيجة والمآل، والوقائع المنقضية والأحكام الإلهية النافذة، أدركت أن في كل جزء من جزئيات حياتنا آليات لعمل القدر، وهي من السنن الكونية المجسدة للعدالة الربانية، ولكن جهل كثير من الناس بها أو تجاهلهم لها أو إعراضهم عن الأخذ بأسبابها يحرمهم من خير ما كتب الله لهم بها وفيها من الأقدار.
وقفت عند إشكالية التوفيق بين حرية الاختيار وعلم الله المسبق للنتيجة والمآل، هل يعني تدوين الأفعال في كتاب الله -وعلمه الأزلي سبحانه بها قبل وقوعها- بأننا مسيرون، وأن الله هو الفاعل مسبب الأفعال؟ إشكالية عقلية وقف عندها صاحب رسول الله الصديق -رضي الله عنه وأرضاه- متسائلا.. قال: قلت يا رسول الله "نعمل على ما فرغ منه أم على أمر مؤتنف، قال على أمر قد فرغ منه، قال ففيم العمل؟ قال: كل ميسر لما خلق له"، فالفاعل هو العبد والله الميسر لفعله من خلال عمل كل إنسان لما خلق له، فكل إنسان خلق لغاية ورسالة ليملأ فراغا ينتظره، والبحث يبدأ من الداخل من ذات الإنسان، وعندما يدرك العبد دوره ورسالته، فإنه سيصبح جزءا من الذكاء الكوني الذي يسير الكون بدقة متناهية من الذرة إلى المجرة، وستعمل الحياة من خلاله وسيعان على تحقيق ما خلق من أجله، بل وسيعرف من خلال ذلك كله ربه (من عرف نفسه فقد عرف ربه).
عدت أسأل نفسي، فما زالت الإشكالية قائمة عندي، ما دام الفاعل هو العبد، وهذا ما يتفق مع عدل الله، بل والقول بغير ذلك هو من عقيدة الجبرية الذين أضلوا فهم القضاء والقدر، فكيف أوفق -إذن- بين حرية الاختيار وعلم الله المسبق بالنتيجة والمآل؟ بعد بحث طويل وقراءة وتعمق وجدت إجابتي في علم الفيزياء، حيث يؤكد علماء الفيزياء أن الزمن من الخصائص الناتجة عن وجود مادة، فبدون مادة لا يوجد زمن، فالزمن بدأ عندما خلق الله المادة والكون، والزمن يعني التغيير، ولكن الله -سبحانه- ليس كمثله شيء ليس بمادة ولا يتغير سبحانه، وبذلك فإن الثانية أو بليون عام عند الله سيان؛ لأنه سبحانه خارج عن منظومة المكان والزمان. أما نحن فمحدودون في أربعة أبعاد الطول والعرض والارتفاع والزمان، فالإشكالية تكمن إذا في محدودية عقل الإنسان الذي يحاول أن يضع غير المحدود سبحانه في إطار محدودية الزمان والمكان، ولكنه سبحانه الأول والآخر وسع كل شيء علما، وبذلك فهو يعلم نتاج ومآل كل شيء دون التعارض مع حرية الاختيار للإنسان، بل ويؤكد علماء الفيزياء أن الزمن وهم ليس له وجود إلا في عالمنا المحدود بالمكان، وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم لصاحبه الصديق -رضي الله عنه-: "أمر قد فرغ منه" أي بالنسبة للخالق سبحانه وتعالى.
فأين إذا آليات عمل القدر الكونية العادلة؟ وكيف تعمل؟ وما الذي يمنعنا من الأخذ بها وفيها خيرنا في الدارين؟ في كل ناحية من نواحي الحياة أنظر فأجد آليات لعمل القدر، آلية عمل القدر التي تجعل العبد يحيا حياة طيبة وجدتها في قول الله تعالى: (من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون). آلية عمل القدر التي تبدل كل قدر إلى خير قدر وجدتها في حسن الظن بالله، في الحديث القدسي: (أنا عند ظن عبدي بي فليظن بي ما يشاء) مما يؤدي للشكر في السراء والصبر في الضراء، وهو ما تعجب منه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في قوله: (عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله خير وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له)، بل وقال: ويعجبني (الفأل) وهو توقع الخير، وبذلك نملأ قلوبنا بالأمل والتفاؤل ونبرمج دواخلنا وعقلنا الباطن بترسيخ قناعات داخلية ذات أنماط فكرية إيجابية؛ فنرى الأحداث بها فينعكس على خارجنا ليصبح حقيقة حياتنا، إنها القوة الخفية تنطلق من داخل الإنسان وتستدعي الوقائع الخارجية على قدر حسن الظن بالله والعمل بهذه الآلية.