يقول المهندس (إبراهيم أبا الخيل) رئيس تحرير مجلة (البناء) عن العمارة التقليدية في عسير وعبقريتها وعمقها الإنساني وخصوصيتها الهندسية (مثيرة تلك التكوينات العمرانية المتناثرة، مدهشة في حضورها الأفقي الذي تخترقه أبراج متباعدة تمثل قمة المساكن المتعددة الأدوار، القرية العسيرية مبهرة في كل شيء، وبالذات في مبانيها الشامخة والمستقلة في تنظيمها الذي يصنع منظومة فراغية ذات عمق إنساني في أشكال مبانيها المتقاربة والمتكررة وغير المتطابقة، تختزن الكثير من العبق التاريخي ومن العلاقات الإنسانية ومن الشفافية الهندسية والحس الهندسي المرهف) ولكني افتقدت ذلك الحس الذي يتحدث عنه (أبا الخيل) وأنا أعبر أمام (دوار الخالدية) بأبها وأبصر فضاءات رحبة، وألمح داخلها مكوّنا عمرانيا ملتبسا، لم أستطع تحديد هويته وسجله البنائي، من حيث الطراز والمعايير الجمالية والتصميم الوظيفي المنسجم مع العمارة المحلية؛ فالعمارة في عسير تعتمد عللا التعبير الخارجي القوي المستند على مواد البناء ما بين العمارة الطينية والحجرية، حيث يؤخذ في الاعتبار التناغم ما بين الجغرافيا والمناخ والطبيعة الخضراء والتنوع الطبوغرافي، مما أعطى لهذه العمارة الثراء والقيمة المشهدية، ولكن الذي رأيته في الدوار ليس البناء السائد والمتماهي مع الذاكرة وتدفقاتها، ولا يشكل استحضارا لسمات وملامح وتمثلات ما نعرفه ونحيا تحت سقفه، فالشائع في مدينة (أبها) وما حولها هو توظيف وتأسيس (الربض) من الحجارة بارتفاع لا يزيد عن (متر) ليربض عليه البناء ويقيه من الرطوبة، ثم تأتي المرحلة التالية وهي المداميك والرقف وتعدد الأدوار، والتي تقل كثيرا عن الأدوار في السهول الشرقية من عسير، حيث تنهض الأدوار والمداميك هناك إلى علو شاهق كما في قرية (آل الخلف)، وذلك ارتفاع لا نعهده في السروات،؛ نظرا لجفاف التربة وتماسكها وضعف الرطوبة فيها ولذا أتمنى على المعنيين في (أمانة منطقة عسير) أن يستثمروا تلك المساحة المتبقية من (الدوّار) لبناء نماذج بنائية تجسد مكونات الطرز المعمارية في السروات والتهائم الجبلية والساحلية، وبلاد شهران وقحطان ورجال الحجر، نظرا للتفاوتات في العمران المحلي والامتلاء الجمالي في تلك الأنساق الموروثة والمفاهيم القيمية التي يمثلها كل نموذج مدهش ونسيج جغرافي منفتح على أفق الحياة، وعبقرية ذلك الكائن الأسطوري، وذكائه الفطري والتحامه مع الأرض وقدرته على صياغة ذلك المنجز الكمي والنوعي والمعرفي، ليتمكن العابرون بالدوار من قراءة وجوهنا وأفكارنا وطبيعة وعينا، وعذوبة خصوصيتنا وأصالة قيمنا المجتمعية وتحولنا الحضاري، ولتكون نموذجا للقرية (العسيرية) مع الدعوة إلى استلهام تلك النماذج في البناء، بدلا من هيمنة الثقافات المعمارية العالمية المنفرة، وهذه ليست دعوة للاختباء خلف التراث والعيش داخله ولكنها صرخة للدفاع عن الهوية المعمارية المحلية واتقاء جبروت الاستلاب.