الخطاب هنا، هو حضور الدولة، كأنظمة وقوانين ومؤسسات مدنية جامعة حديثة تتجاوز بقوانينها وأنظمتها ومؤسساتها الرسمية والمدنية؛ ما عداها من مؤسسات وأعراف اجتماعية تقليدية. الدولة كمؤسسة جامعة هي نتاج تطور حضاري ومدني، خاضته الشعوب وناضلت من أجله. إذًا فالدولة نقطة بداية مشوار حضاري ومدني وليست نقطة نهاية له أو قمة المشوار الحضاري والمدني، الذي يناضل من أجله الإنسان لصيانة كرامته واحترام إنسانيته.

قبل نشوء الدولة القديمة كانت هنالك شعوب وقبائل؛ كل منها تدير ذاتها عن طريق أعرافها وهيكليتها الإدارية التنظيمية المتعارف عليها. القبائل معروفة من ناحية العرق والتركيبة، أما الشعوب فهي التي تقطن الشعاب، وتحتل منطقة جغرافية معينة تمتهن الفلاحة وفي بعض الأحيان التجارة والصناعات الحرفية، وقد يكون الشعب متماثل العرق أو متنوع الأعراق. الشعوب تعتبر مرحلة تجمع بشرية متطورة عن القبيلة ولاحقة لها.

القبيلة كانت مرحلة تطور بشرية سابقة لغيرها من مراحل هيكلية تنظيم التجمعات البشرية، وذلك لحاجة الإنسان لها في مرحلة تطوره الأول. الإنسان بطبعه كائن اجتماعي، وتطور مصدر رزقه من اللقط والصيد إلى الرعي والزراعة فرض عليه نوعا من العمل الجماعي الذي يحتاج إلى تنظيمه تراتبياً حسب أعراف يتفق عليها. إذًا فالقبيلة نوع من الدولة البدائية؛ والتي تؤمن لأفرادها الرزق والأمن والهوية كذلك، ولذلك بادلها الفرد القبلي كل حب وولاء، وتقيد بأعرافها بكل إيمان وصدق ودافع عنها ببسالة. 

الدولة القديمة، كانت أساس فكرة الدولة الحديثة، فقط من ناحية مركزية اتخاذ القرار الرسمي الاستراتيجي، والتي عمادها الجيش وسلطة محلية معينة تسندها قوى أمنية من أجل السيطرة على العنف وتنفيذ القرارات الفوقية على الشعوب والقبائل المنضوية تحت لوائها وجباية المال منها لصالح المركز. الدولة القديمة، كانت مظلة أمنية فوقية لعديد من الشعوب والأعراق، التي يحكم كل منها أعرافه المتوارثة، وتتحدث بلغاتها الخاصة. حيث هذا ما كانت تحتاجه الدولة من شعوبها؛ وما تحتاجه شعوبها منها.

إذًا فالدولة القديمة كهيكلية إدارية جامعة غير مركزية، انضوت تحت سلطتها شعوب وقبائل، وعليه لم تلغها وتحل محلها وإنما أبقت عليها كوحدات محلية تساندها وسمحت لها بأن تدير نفسها بنفسها. إذًا فالقبيلة والشعب، كوحدات تجمعات بشرية، كانت أقدم من الدولة القديمة وسابقة لها وحافظت على نفسها وهي تحت ظلها. وبعد تفكك الدولة القديمة، كانت القبيلة والشعب؛ محافظين على كيانهما، أي أصبحا كذلك لاحقين لها.

خطاب الدولة هو رسالتها لشعبها المعبرة عن قوانينها وأنظمتها وهيكليتها السياسية والإدارية وخططها الاستراتيجية الوطنية والتنموية. في معنى آخر خطاب الدولة يمثل هيبتها وتماسك مؤسساتها بغرض فرض وتطبيق قوانينها وأنظمتها كدولة عدل ومساواة لكل مواطنيها بلا استثناء؛ حيث تكون مرجعيتهم التي تعلو على ما عداها من مرجعيات فرعية.

الدولة الحديثة، هي تطور لفكرة الدولة القديمة وأكثر شمولية منها، كونها تعبر عن عقد اجتماعي واضح وملموس بين الدولة ومواطنيها، حيث تكون للدولة حقوق على المواطن بقدر واجباتها تجاهه. وكذلك تكون على المواطن حقوق للدولة بقدر واجباته تجاهها. الدولة الحديثة نشأت في أوروبا في القرون السادس عشر والسابع عشر والثامن عشر بالتحديد؛ كنتاج التطور الفكري والعلمي والديني والإداري والاقتصادي، الذي نتج عن عصري النهضة والتنوير، وفي الأخير الثورات الفرنسية والأميركية وحتى البريطانية قبلهما.

بين الدولة القديمة والدولة الحديثة في أوروبا، ظهرت دولة العصور المظلمة؛ المتمثلة في مركزية جائرة، لا تستند على عقد اجتماعي، وإنما على عقد كنسي إقطاعي بين السلطة الإقطاعية والكنسية. وخلال حقبة الدولة الكنسية الإقطاعية في أوروبا؛ انتشر الظلم والتفرقة والعنصرية والطائفية التي أشعلت حروبا دينية مدمرة بين الشعوب الأوروبية. ومع الكشوفات الجغرافية في القرن الخامس عشر؛ تكدست أموال طائلة في مخازن الدولة الأوروبية التسلطية، ما أتاح مجالا لانتشار التجارة والعلم والازدهار بين شعوب أوروبا.

ونتيجة ذلك؛ ظهرت لأول مرة في أوروبا، طبقة سكان المدن، الطبقة الوسطى، أو كما تمت تسميتهم في إيطاليا، البورجوازية، أي سكان المدن. ومن المعلوم أن الطبقة الوسطى، تكون متعلمة ومطلعة على ما يجري ويدور حولها، بالإضافة إلى طموحها المشروع إلى تحسين حال معيشتها مادياً وتعليمياً وثقافياً وكذلك سياسياً. وهكذا سادت ثقافة الطبقة الوسطى والتي اعتبرت أن العلاقة بين الدولة والمواطنين ليست علاقة غلبة؛ وإنما علاقة عقد اجتماعي. ومن هنا قامت الثورات في أواخر القرن الثامن عشر والتي على إثرها ظهرت الدولة الحديثة بخطابها السياسي المدني الحداثي، الراعي لمصالح المواطنين والمحافظ على العدالة والمساواة بينهم.

تطورت أوروبا وتقدمت أكثر بسبب أنظمتها السياسية الحديثة، ونتجت عن ذلك الثورة الصناعية في القرن التاسع عشر، والتي مهدت لتكالب دولها التي تحولت إلى إمبرياليات تتسابق على استعمار دول الشرق البدائية. كان العالم العربي يقبع تحت ظل الدولة العثمانية، وهي خليط من الدولة القديمة والدولة الدينية المتسلطة. وكانت الدولة العثمانية قد قسمت العالم العربي إلى ولايات، وعينت على كل ولاية واليا يجلب الضرائب لها، ويتغاضى عن إدارة كيانات الولاية، سواء القبلية أو الجهوية على حسب أعرافها وتنظيماتها الإدارية العرفية.

في بداية العقد الثاني من القرن العشرين؛ نشبت الحرب العالمية الأولى والتي كانت الدولة العثمانية طرفا فيها. انهزمت الدولة العثمانية وتقاسمت الدول الأوروبية المنتصرة الولايات العثمانية العربية فيما بينها. أي أن الدول الأوروبية وجدت المنطقة العربية مقسمة إلى ولايات على النمط العثماني؛ فقررت أن تجعل من كل ولاية دولة، تديرها بنفسها؛ من أجل استغلال مواردها.

إذًا الدولة الحديثة كانت مطلبا تاريخيا في أوروبا، أما في العالم العربي فكانت الدولة مطلب غلبة بين الدول الأوروبية بالتوافق مع الطبقة الإقطاعية العربية، صنيعة الدولة العثمانية. ولذلك ليس بالمستغرب، فالسياسي العربي حينها؛ اعتبر تأسيس الدولة نهاية مطاف التطور وليس بدايته كما حدث في أوروبا، وعليه أدار دولته كما كان يدير إمارة عثمانية دون خطاب واضح لها، وإنما خطاب ضبابي، وترك الخطابات التقليدية تدير ذاتها بذاتها كما كانت في ظل الدولة العثمانية.

الدولة العربية لم تصبح كالدولة القديمة -لا مركزية في إدارتها لوحداتها السياسية الجغرافية- ولم تصبح كالدولة الحديثة التي حلت محل وحداتها وكياناتها التقليدية الصغيرة، ولم تتركها تدير حالها كما في الدولة القديمة. فأصبحت الدولة العربية "الحديثة"، لا هي بالدولة القديمة ولا هي بالدولة الحديثة. حيث أصبحت دولة مسخا؛ فليست دولة مركزية ذات خطاب واضح وجلي حلت محل وحداتها الصغيرة التقليدية وفرضت عليها خطابها، ولا هي فيدرالية لا مركزية أقرت بخطابات وحداتها التقليدية.

والنتيجة، عندما اجتاحت الفوضى عددا من الدول العربية، فيما يسمى "بالربيع العربي" سرعان ما تفككت إلى كيانات قبلية وطائفية ومناطقية كما كانت في عهد الدولة العثمانية. حتى إن بعض المناطق المضطربة في تلك الدول لا ترحب بدخول جيش الدولة للدفاع عنها، وإنما أخذت تدافع عن نفسها بنفسها. وهذا نتاج غياب خطاب الدولة الحديثة المترسخ في الدول العربية.