أناخت منازلنا تحت غيمة ثقيلة، يهزها البرق والرعد، فهل تتدفق الأمواج في دواخلها؟ وهل يصحو أطفالنا وهم غرقى في سرائرهم؟ أمر مرعب ورهيب ما تموج به مجتمعاتنا في مثلث الرعب الذي كان نادرا ما يطفو على السطح!

محاكم وطلاق، إحجام عن الزواج من الشباب والشابات، أطفال تيتموا وأهلهم أحياء، ومنازل اكتظت بالفتيات والفتيان، وتذاكر ورحلات خارج الوطن للفوز بالنظرات والهمسات! فماذا حدث وما الذي خلخل هذه البنية الاجتماعية الصلدة؟! بنية كرمها الله -سبحانه وتعالى- بوجود الحرمين الشريفين فيها وبها نزل الوحي!

ورد في إحدى الصحف الخليجية: (ويقول خبراء اجتماع إن السبب الرئيسي في ارتفاع حالات الطلاق والعنوسة هو الوفرة المالية التي شهدتها المملكة في السنوات الماضية؛ ما جعل كثيرا من الشبان يعزفون عن الزواج، أو يتزوجون ويطلقون بسهولة، فضلا عن تغلغل القيم الغربية الفاسدة في المجتمعات السعودية وبين الشباب)، إلا أنني أرى أن الأخير هو أكثر ضراوة، وأن مثلث الرعب هو السبب الرئيس في زيادة هذه النسبة.

كانت جدتي تحدثني بما يعملون به في تربية أولادهم ومعاملة أزواجهم وزوجاتهم، فكان العمل والمشقة يخمدان ثورة الشبق الغريزي، هكذا كانت تقول، وكانت تذكر لي أن الراحة تذكي نار الغريزة، وأعتقد أن كلامها على حق، خاصة في زمن أصبح فيه الرجل والمرأة تحفهما الخدم والخادمات! ولذلك وجه الرسول الكريم الشاب غير القادر على الزواج بالصيام، أما في أوروبا فيشغلون أبناءهم بالأنشطة الرياضة لما لها من سحر غريب في تفريغ الطاقة، ومن ظواهر هذا العصر تفشي الخيانة الزوجية، بالرغم من أن الفعل لا يليق بالرجال، فأهم ما يميز الرجل هو وقاره في مجتمعه، فالرجل في مجتمعنا كان ولا يزال يقاس بمعيار الشرف وكذلك المرأة، ولهذا ظهرت سمة القناع والتقنع للمواءمة بين هذا وذاك، وطفحت على السطح كارثة ازدواج الشخصية، بين مجتمع محافظ يحمل قيم وعادات وتقاليد عالم غريب فرض نفسه علينا!

فلم تعد مشكلة الخيانة الزوجية مشكلة فردية، وإنما أصبحت ظاهرة تؤرق مجتمعاتنا العربية كلها، ويجب ألا ندفن رؤوسنا في الرمال كنعام المفازة. قلق وخوف وترقب وفوضى تعرِّض بيوتنا وأطفالنا للانهيار، وبالتالي المجتمع وبنيته التي أصبحت مهددة من كل حدب وصوب. من أين أتت وكيف انتشرت ولماذا استفحلت؟ تساؤلات ثلاثة يجب أن نمعن النظر فيها جيدا وندرس جوانبها العقائدية والاجتماعية والاقتصادية.  

هذا المثلث موجود حسب الطبيعة البشرية وقديم قدم التاريخ، إلا أننا نكتب عنه اليوم لأنه أصبح ظاهرة، بل أصبح من ظواهر الرفاهية إن جاز التعبير، هذا المثلث موطنه الأصلي أوروبا، فالمصطلح نفسه هو ثالوث (الزوج، الزوجة، العشيق)، هو مصطلح نقدي أتى من الأدب الغربي وعلى سبيل المثال روايات "هيتش كوك" وكل كوميديات القرن السابع عشر وغير ذلك، لأنها كانت ظاهرة اجتماعية لديهم، أما في بلادنا فكان يحجم أمرها أمور كبيرة وأهمها الروابط الاجتماعية والقبلية والشرف والعيب والخوف من اللوم، وكل هذا يجعل الفرد منبوذا مذموما في أهله وعشيرته حتى يصل الأمر إلى عدم قبول شهادته في المحاكم وعدم مصاهرته، كما أنه لا يجلس في صدر المجالس مع علية القوم ولا "يفز" له مجلس، وهذه علامات تحقير من شأن الرجل والتي هي بدورها تؤدبه وتشذب أخلاقه في مجتمعه وبين أهله. الأمر الآخر وهو الوازع الديني، فلا ننكر أن مراقبة الفرد لدينه تضاءلت، فقد كان الرجل إذا ما أراد أن يسأل عن رجل ويستقصي أمره يذهب إلى أقرب مسجد في حِماه ويسأل عنه، فإذا قيل إنه يذهب إلى المسجد وملازم للجماعة ذهبت عنه كل الشبهات. أيضا كان الزواج من نفس القبيلة أو الجماعة أو من الأقارب يشكل نوعا من الرادع الاجتماعي. كل هذه الأمور أو جلها كانت تشكل سياجا اجتماعيا، وأهمها خوف العربي من اللوم، فاللوم وعدم التدَّين من سقطات العربي، ولذا كان يخشى الانزلاق في مثل هذا المستنقع. ألم نسأل أنفسنا لماذا نبغ العربي القديم في الشعر، وكيف أصبح حاله اليوم؟ أكاد أجزم أن ذلك يرجع إلى اللوعة والوله الناتج عن العفاف وقوة وطأة صيانة الشرف، وهو ما يكون الصراع بين العاطفة والواجب، فالواجب كان أقوى والعاطفة كانت تكبت وتظهر على شكل أشعار خلدت مع الزمن.

اليوم وفي مجتمعاتنا العربية التي تعد مجتمعات محافظة ومتدينة والشرف يشكل ركنا من أركانها، أصبحت العلاقات المحرمة وانتشار هذا الثالوث سمة بغيضة تهدم البيوت وتشرد الأطفال، وقد نلاحظ ازدياد نسبة الطلاق في بيوتنا ولعل هذا الثالوث من أهم أسباب ارتفاع نسبة الطلاق، فالهرم المقلوب أصبح ظاهرة مميزة، والتباهي في مجالس النساء ومجالس الرجال بالعلاقات العاطفية أصبح أمرا عاديا، كما أن (الهواتف الذكية) في يومنا هذا أصبحت تمتلئ برسائل الحب والغرام والصور وكل محرمات القول والفعل، ثم يوضع عليها رقم سري كأسرار الحروب وشفرات الجواسيس فلا يفك شفرتها سواه.

هذه الازدواجية في المعايير والأخلاق في مجتمعاتنا خلقت نوعا من التقنع ونوعا من الكذب والزيف المجتمعي المخادع لله، للمجتمع وللوطن، فلو عرف الرجل أو المرأة أن أسرته أو أسرتها هي لبنة تشكيل الهوية، وأنهما يعبثان بها عبث السفهاء لما أقبلا على هذا السفه وهذا الشبق الوجداني الذي يتلصص به الشخص على نفسه، وعلى أسرته التي هي أقرب وأحب خلق الله إليه. ما هذا العفن الوجداني والزيغ البصري والسفه الخلقي والقيَّمي الذي لا ينم إلا عن غياب للوعي والثقة وإسهاب في التفريط للأمانة التي حمَّلها الله -سبحانه وتعالى- للإنسان؟

فماذا نحن فاعلون بشرائح مجتمعية يبحث كل طرف فيها عن نظرة خاطفة أو شهقة نازقة، أو كعب مدور أو رمش، أو عطر فواح، أو صدر عار؟! عيون تتدحرج على الأرصفة وعلى قارعة الطريق تحملق وتهذي، ثم تعود إلى مأواها في آخر الليل بنفس زاهدة لأكرم رابطة خلقها الله على الأرض، بل أخذ عليها عهدا وثيقا وغليظا بأن لا خيانة بين ردهاته، فيحنث ويخون ويمد خيوط العنكبوت إلى ما لا يجيزه الله له، ولا يقره عرف ولا تعترف به أخلاق. إنه (مثلث الرعب) وإنها أولى انهيارات دعائم هذه الأمة التي أوشكت أو تكاد!