ثورة انطلقت في عموم إيران في نهايات سبعينات القرن الماضي، رجال مؤدلجون قفزوا على ثورة الشعب واختطفوها.. "الموت لأميركا"، "الموت لإسرائيل"، "الشيطان الأكبر"، "القضية الفلسطينية"، و"قوى الاستكبار العالمي"، وصل صدى هذه الشعارات عبر بروكسيات الأدلجة والمؤدلجين إلى الداخل العربي مع صبغة طائفية تظهر تارة وتختفي تارة أخرى، وفقاً للظروف والمصالح السياسية. صدّق بعض سذج العرب، ومعذرة على هذا الوصف، تلك الشعارات، أصبحوا يرددونها كالببغاوات معتبرين أنها ركناً أساسياً في مواقفهم، بل من ثوابتهم الراسخة، أصبحوا يلهثون خلف تلك الشعارات وهي "كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى? إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا"، تخلوا عن عروبتهم وانتمائهم القومي والوطني، أخذوا على عواتقهم تنفيذ المشاريع الفارسية أو المساهمة في إنجاحها لتصبح حقيقة على أرض الواقع.
بدورها، استغلت إيران مواقف أولئك العرب السذج وساومت بهم على طاولات المفاوضات الغربية والشرقية وتركتهم لمصيرهم وسجناء لشعاراتهم التي قررت طهران ذاتها تجاوزها. أصبح واضحا للجميع أن النظام الإيراني دخل المفاوضات خدمة لمصالحه السياسية أولاً وأخيراً وسعياً لتحقق أهدافه، ولذلك يتم التراجع رويداً رويداً عن تلك الشعارات التي لم تعد صالحة للمرحلة الجديدة وبخاصة بعد الاتفاق النووي، فسارعت طهران إلى اقتلاع اللوحات العدائية وطمست جداريات "الشيطان الأكبر" في شوارع طهران، فالمرحلة جديدة وإيران أصبحت جديدة والغرب أصبح جديداً أيضاً، وبالتالي لم تعد تلك الشعارات ضرورية إطلاقاً. ولكن في خضم ذلك كله، تنبه الساسة في طهران إلى أن رفع الشعارات من أسس ومبادئ النظام الثوري القائم فكيف يتم التخلي عن تلك الثوابت والمبادئ؟ وسريعاً تقفز الفكرة البديلة التي تتمثل في رفع شعارات مماثلة ولكن باتجاه مختلف عن السابق. من هنا تتحول البوصلة الإيرانية تلقائياً نحو الشرق، بل نحو دول الجوار العربي، لتخرج بعض الأشعار والأغاني على مواقع حكومية إيرانية تطالب بقتل العرب (عرب كش) ورميهم في مياه الخليج العربي (يسمونه الفارسي وهو لو نطق لما عرف غير العربية)، وظهرت شعارات على جدران أحياء طهران تقول "مرگ بر عرب" (الموت للعرب)، واستبدل تحرير فلسطين بتشكيل الامبراطورية الفارسية وعاصمتها بغداد، والأمثلة في هذا الباب كثيرة جداً.
كل ذلك يمكن تجاوزه لسبب أو لآخر، لكن مهلاً مهلا، ماذا سيحدث لمن أطلقت عليهم في بعض تغريداتي بحساب "شؤون إيرانية" على موقع تويتر "أحباب إيران" في الداخل العربي؟ هل سيلهثون خلف الشعارات التي تنادي بقتلهم وقتل أبناء جلدتهم من المحيط إلى الخليج؟ يا للمفاجئة، بل يا للفضيحة، لسان حالهم يكرر كيف نخرج من هذا المأزق، فلا مجال للاستمرار في ترديد تلك الشعارات السابقة، وهذه الشعارات الجديدة ستجعلنا في فوهة المدفع أمام أهلنا وأبناء الوطن، فكيف نتصرف؟
لا يمكننا الإجابة عن القرار الذي سيتخذونه ولا هل سيكون هذا التحول الإيراني سبباً في استيقاظهم من تلك الغفلة وينقذهم من حالة الاختطاف الفكري والأيديولوجي؟ فقط يمكننا أن نذكرهم جميعاً بأن الدم العربي الذي يجري في عروقهم هو ذاته الذي يجري في عروق كل العرب الآخرين، واللغة واحدة، والوطن واحد، والعادات والتقاليد كذلك، وعليهم أن يعودوا إلى الحضن العربي الدافئ، فقلب العربي كبير، وشيمته العفو والصفح متى ما لمس عودة جادة لابن جلدته الذي تم اختطافه لسنوات وربما لعقود.
في نهاية المطاف، اعلم يقيناً يا من خدعتك إيران بشعاراتها التي تخلت عنها الآن، أنك ستبقى عربياً في عين الجار الفارسي وإن كنت شيعياً أو متشيعاً سياسياً، فالمحرك الأساسي قومي وليس مذهبياً، واسألوا، إن شئتم، اللاجئين العراقيين الشيعة في إيران، بل اسألوا أهلنا في الأحواز العربية واسمعوا ما يردده بعض رجال الدين الشيعة في العراق ولبنان عن أطماع إيران الفارسية في المنطقة العربية. بكل صراحة ووضوح، يمكن للعربي أن يتجاوز كل شيء ولكن تاريخ الصراع العربي الفارسي لن يغفر ولن يتجاوز ولن ينسى، وعودوا للحركة الشعوبية وأدبها قبل أحد عشر قرناً وقارنوها بالأدبيات الصادرة حديثاً من إيران، لتدركوا حجم الخلاف الثقافي والتاريخي الذي ارتدى العباءة المذهبية بعد ثورة 1979.
ختاماً، نقولها بكل أسى ومرارة، يبدو أن قدر المنطقة الاتكاء على التاريخ الذي لم تخرج منه مع الأسف الشديد. كلنا نتمنى علاقة طبيعية مع الدول والأعراق المحيطة بنا، ونتجاوز الإرث المتراكم من الصراعات الثقافية والتاريخية والأدبية والمذهبية وحتى العسكرية، لكن هناك من يعتقد أن استمراره ككيان سياسي مرهون بإذكاء هذه الصراعات حتى أصبحت كالأكسجين الذي يموت بدونه.