إبان ثورة الخامس والعشرين من يناير في مصر، كنت أجلس مع عدد من الزملاء الصحفيين في أحد المقاهي القريبة من ميدان التحرير في وسط القاهرة، وتساءل عدد منهم عن سبب عدم هبوب نسائم هذا الربيع المنسوب لبلاد العرب على دول هي بأمس الحاجة إليه، لاسيما العراق الذي عاش منذ سقوط نظام صدام حسين سنوات عجاف من الفساد السياسي والتنازع على السلطة، والأمر نفسه ينطبق على لبنان هذا البلد الذي تلاطمته أمواج الأحزاب المؤدلجة سياسيا ودينيا وأبحرت به بعيدا عن بر الأمان.
الإجابة كانت حاضرة في أذهان البعض، وغائبة عن أذهان البعض الآخر، إنها الطائفية المقيتة التي لم تسمح للعراقيين أو اللبنانيين يوما بالارتماء في أحضان أوطانهم، والنهوض كرجل واحد في وجه الفساد والمفسدين، لأن هؤلاء وقبل أن يمارسوا فسادهم على واقع الناس وحياتهم، امتهنوا فسادا فكريا طائفيا لتلويث عقول المواطنين وضمائرهم، فبات المسيحي يخشى المسلم، وأضحى السنة والشيعة خصوما بمباركة سياسية.
لكن ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل، فمن كان يتخيل أن يستيقظ العراقيون يوما، ويخرجوا في مظاهرات تندد بفساد الطغمة الحاكمة، وتطالب بفتح ملفات المسؤولين عن سرقة لقمة الشعب؟ من كان يظن أن يتغلب اللبنانيون على لعنة الأحزاب الطائفية التي لاحقتهم منذ نهاية الحرب الأهلية، ليرفعوا الصوت في ساحة رياض الصلح، تنديدا بمن حوّل "ست الدنيا" بيروت إلى مكب مفتوح للنفايات قد تكون رائحته الكريهة أفضل بكثير من رائحة فساد كل من تسبب في معاناة الشعب اللبناني؟!
البداية كانت مبشرة لكن الخوف كل الخوف من دخول المندسين لإفساد هذه الهبة الشعبية المستحقة، وهو ما حدث في لبنان فعلا، فكانت المشاهد التي تناقلتها شاشات الفضائيات، لمجموعة من البلطجية بادروا إلى مهاجمة الممتلكات العامة والخاصة وإلقاء قنابل المولوتوف الحارقة بهدف تشويه صورة هذا الحراك السلمي، وكم تفاجأ اللبنانيون عندما شعروا بأن حقهم حتى في الاحتجاج على أمر يمس صحتهم وصحة أطفالهم بات مصادرا من قبل أفراد أو أحزاب لا تعرف للإنسانية طريقا، بل استغلها البعض لركوب موجة التكسب السياسي والعزف على هموم المحتجين وآلامهم، فيما يعيث أتباعهم فسادا في الأرض.
المشهد الآخر يبدو أكثر خطورة في بلاد الرافدين، خاصة بعد أن دخلت المرجعيات الدينية على الخط، وبدأت بالتداعي للتظاهر غداً في مناطق متفرقة دعما لمطالب المحتجين، وذلك على الرغم من أن هذه الاحتجاجات قد خرجت رافعة راية الدولة المدنية، رافضة أي شعار ديني أو طائفي أو حزبي، ولا أحد يعلم كيف سيتحول مسار التظاهرات إن صدحت فيها هتافات الدين أو الطائفة، واستغلها ضعاف النفوس لتصفية حساباتهم السياسية وتنفيذ هجمات ضد المتظاهرين العزل.
لا أريد أن أكون متشائمة، لكن أوراق هذا التاريخ ما تلبث أن تنسخ نفسها بين الحين والآخر، ولطالما نجحت تلك العقول المظلمة في بث الفرقة وشق الصف، وإقناع المواطن البسيط أن ولاءه لطائفته الدينية أو حزبه السياسي هو أهم من قوت يومه والحياة الكريمة التي من المفترض أن توفرها له الدولة، وهكذا نجحوا دائما في وأد أي حركة احتجاجية عادلة وهي في مهدها.
الأمل الآن معقود على العقلاء من أبناء الشعبين في العراق ولبنان، للوقوف صفا واحدا في وجه الفساد، واستعادة هيبة الدولة ومقدراتها المسروقة من قبل تجار الدين والسياسة معا، هؤلاء الذين لن يتوانوا عن بيع دماء الناس بثمن بخس، لرفع أسعار أفكار عفنة تجاوزت رائحتها الكريهة حدود الجغرافيا والتاريخ.