سأتناول في هذا المقال قاعدة مهمة تعين على فهم الإمام رحمه الله حين نقرأ ما يذكره في كتبه من أحكام على الطوائف المخالفة لأهل السنة والجماعة من طوائف المسلمين، أو طوائف "أهل القبلة".

قد يذكر ابن تيمية مقولات الطوائف المخالفة كما هي، أو يذكرها بلوازمها، فيقول عن الشيعة مثلا في مقارنة بينهم وبين الخوارج: "والرافضة أكذب منهم وأظلم وأجهل، وأقرب إلى الكفر والنفاق.. إلخ". ويقول مثلا: "عامة علامات النفاق وأسبابه ليست في أحد من أصناف الأمة أظهر منها في الرافضة، حتى يوجد فيهم من النفاق الغليظ الظاهر ما لا يوجد في غيرهم ..إلخ". ومثل هذه الأوصاف كثير في كتب ابن تيمية رحمه الله، فهل هذا يعد من قبيل التكفير بحسب منهج ابن تيمية؟

سبق وأن أوضحت أن ابن تيمية لا يكفر الحلولية الذين ناظرهم، وهم علماء وقضاة وأكابر، والحلول هو اعتقاد أن الله تعالى يحل في مخلوقاته، وهو كفر بإجماع المسلمين، ونقلنا أن ابن تيمية يرى أن "المجتهد" في أصول الدين عند الله معذور؛ حتى لو أداه اجتهاده إلى ما هو كفر عند أهل السنة والجماعة، وبيّنا أن ابن تيمية رغم كثرة المناظرات وطولها مع مخالفيه من الحلولية وغيرهم لم يكفرهم إذ لم ير أن الحجة قامت عليهم؛ لأن شرط قيام الحجة عنده أن ترفع الشبهة، فإذا لم ترفع الشبهة المانعة من بيان الحق عند الخصم ولم تزل المعارضات العقلية في ذهنه فهو عند الله تعالى معذور لا يكفر.

والقاعدة التي يتبعها ابن تيمية في هذا هي:

تكفير المطلقات غير تكفير الأعيان، وبتعبير آخر: تكفير العموم غير تكفير الشخص المعين، إذ للتكفير شروط يجب توافرها، وموانع يجب انتفاؤها ليصح الحكم على شخص معين محدد.

يقول ابن تيمية عن السلف الصالح رضي الله عنهم: "وليس فيهم من كفر كل مبتدع، بل المنقولات الصريحة عنهم تناقض ذلك، ولكن قد ينقل عن أحدهم أنه كفر من قال بعض الأقوال، ويكون مقصوده أن هذا القول كفر ليحذر، ولا يلزم إذا كان القول كفرا أن يكفر كل من قاله مع الجهل والتأويل؛ فإن ثبوت الكفر في حق الشخص المعين، كثبوت الوعيد في الآخرة في حقه، وذلك له شروط وموانع، كما بسطناه في موضعه. وإذا لم يكونوا في نفس الأمر كفارا لم يكونوا منافقين، فيكونون من المؤمنين، فيستغفر لهم ويترحم عليهم. وإذا قال المؤمن: {ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان} [سورة الحشر: 10] يقصد كل من سبقه من قرون الأمة بالإيمان، وإن كان قد أخطأ في تأويل تأوله فخالف السنة، أو أذنب ذنبا، فإنه من إخوانه الذين سبقوه بالإيمان، فيدخل في العموم، وإن كان من الثنتين والسبعين فرقة، فإنه ما من فرقة إلا وفيها خلق كثير ليسوا كفارا، بل مؤمنون فيهم ضلال وذنب يستحقون به الوعيد، كما يستحقه عصاة المؤمنين.

والنبي -صلى الله عليه وسلم- لم يخرجهم من الإسلام، بل جعلهم من أمته، ولم يقل: إنهم يخلدون في النار. فهذا أصل عظيم ينبغي مراعاته؛ فإن كثيرا من المنتسبين إلى السنة فيهم بدعة، من جنس بدع الرافضة والخوارج. وأصحاب الرسول -صلى الله عليه وسلم- علي بن أبي طالب وغيره لم يكفروا الخوارج الذين قاتلوهم، بل أول ما خرجوا عليه وتحيزوا بحروراء، وخرجوا عن الطاعة والجماعة، قال لهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه: إن لكم علينا أن لا نمنعكم مساجدنا ولا حقكم من الفيء. ثم أرسل إليهم ابن عباس فناظرهم فرجع نحو نصفهم، ثم قاتل الباقي وغلبهم، ومع هذا لم يسب لهم ذرية، ولا غنم لهم مالا، ولا سار فيهم سيرة الصحابة في المرتدين، كمسيلمة الكذاب وأمثاله، بل كانت سيرة علي والصحابة في الخوارج مخالفة لسيرة الصحابة في أهل الردة، ولم ينكر أحد على علي ذلك، فعلم اتفاق الصحابة على أنهم لم يكونوا مرتدين عن دين الإسلام".

وينقل الإمام ابن تيمية أن السلف لم يكفروا أعيان الجهمية، ولكنهم كفروهم بالعموم، أي إنه تكفير للقول وليس تكفيرا لأعيان القائلين، وفي هذا يقول: "وتكفير الجهمية مشهور عن السلف والأئمة. لكن ما كان يكفر أعيانهم فإن الذي يدعو إلى القول أعظم من الذي يقول به، والذي يعاقب مخالفه أعظم من الذي يدعو فقط، والذي يكفر مخالفه أعظم من الذي يعاقبه، ومع هذا فالذين كانوا من ولاة الأمور يقولون بقول الجهمية: إن القرآن مخلوق وإن الله لا يرى في الآخرة وغير ذلك. ويدعون الناس إلى ذلك ويمتحنونهم ويعاقبونهم إذا لم يجيبوهم ويكفرون من لم يجبهم. حتى أنهم كانوا إذا أمسكوا الأسير لم يطلقوه حتى يقر بقول الجهمية: إن القرآن مخلوق وغير ذلك. ولا يولون متوليا ولا يعطون رزقا من بيت المال إلا لمن يقول ذلك، ومع هذا فالإمام أحمد -رحمه الله تعالى- ترحم عليهم واستغفر لهم لعلمه بأنهم لمن يبين لهم أنهم مكذبون للرسول ولا جاحدون لما جاء به ولكن تأولوا فأخطأوا وقلدوا من قال لهم ذلك. وكذلك الشافعي لما قال لحفص الفرد حين قال: القرآن مخلوق: كفرت بالله العظيم. بين له أن هذا القول كفر ولم يحكم بردة حفص بمجرد ذلك؛ لأنه لم يتبين له الحجة التي يكفر بها ولو اعتقد أنه مرتد لسعى في قتله ..إلخ".

هذا وحفص الفرد عالم من علماء الجهمية وليس من عوامهم، ومع هذا لم يره ابن تيمية كافرا بهذا، ولا مرتدا.

إن هؤلاء الدواعش ينزلون أحكام الردة على مخالفيهم من السلفيين فضلا عمن سواهم، ينزلون حكم الردة على عوام الشيعة فكيف علماؤهم؟ ثم يدعون أنهم متبعون لابن تيمية، وكذا مخالفوهم يظنون أن منهج الدواعش هو عين منهج ابن تيمية، وكلا الطرفين مفتر على الإمام جهول.

هذا ولم أنقل كل شيء عن الإمام، وإلا فالحديث في هذا يطول. وفي المقالات القادمة مزيد بيان حول منهج ابن تيمية مع المخالفين.