لقد جمعت واستقطبت داعش وأخواتها كل فاسد سادي همجي متعطش للدماء تحت لوائها، وعملت على تدمير البلاد وقتل العباد لا تفرق بين شيخ وطفل أو امرأة، لا تفرق بين موظف أو عامل أو مزارع أو حتى تلاميذ المدارس، كلهم بالنسبة إليهم "كفار" حق عليهم القتل حسب معتقداتهم اللاعقلانية واللاإنسانية! لا يعترفون بتاريخ أو ثروة وطنية، كالتتار يهدمون كل معلم تاريخي ليمحوا معه ذاكرة الشعوب، وعليه فذبح عالم بالنسبة لهم لا يؤخر ولا يقدم، لأن الجاهل صاحب العقل الفارغ الذي لا يقدر قيمة الإنسان لن يعرف بالطبع قيمة العلم والعلماء!
نعت "عروس الصحراء" عالم الآثار خالد الأسعد الذي قامت داعش بذبحه في إحدى باحاتها عند أعمدتها التي قام بترميمها يوما، قُتل حفيد زنوبيا التي علمته بصمودها كيف يصمد أمام تهديدات داعش، لم يهرب حين سقطت تدمر بل بقي إلى جانب معشوقته، لم يدلهم على المكان الذي خبأ فيه آثار المتحف الثمينة، فالمرتزقة كانوا يريدون وضع أياديهم القذرة عليها لبيعها في الخارج كما باعوا الكثير غيرها مما سرقوه وادعوا أنهم دمروه! لم يشأ أن يتخلى عن التي قضى خمسين عاما من حياته وهو يرمم آثارها، حتى باتت كل ذرة من رمال تدمر تعرفه، كل عامود وكل قوس، لقد سقاها بعرق جبينه وهو يشارك في حملات الاستكشاف والترميم المحلية والعالمية، واليوم سقاها بدمائه.
حمل "عروس الصحراء" إلى الشرق والغرب من خلال دراساته وكتبه التي تُرجم بعضها إلى لغات عدة، تعرفنا على الفرق بين المرأة التدمرية والمرأة الإغريقية والرومانية، بلباسها المحتشم وزينتها الراقية وجمالها الفتان، وتعرفنا إلى "... أروع الأطلال العربية الباقية منذ بداية القرن الأول ق. م وحتى الثاني عشر للميلاد،" كما تعرفنا إلى "شوارعها ومتاجرها ومسرحها، والسوق الرئيسية والميدان ومجلس الشيوخ والشعب والأوابد المفصلية وقوس النصر، والبيوت التي فرشت أرضياتها بالرخام أو الفسيفساء، وساحاتها وأروقتها المعمدة بالأعمدة المتوجة بأنواع مختلفة من التيجان المعروفة والأفاريز المثقلة بالمنحوتات الزخرفية النباتية والهندسية والبشرية والأسطورية"، تعرفنا إلى "أقما بنة عطيل بن حجاج" التي ترجم لنا ما كُتب على قبرها بعد اسمها بالآرامية التدمرية "وا حسرتاه"، وعلى ما يبدو من التمثال أنها ماتت في أوج شبابها، نعم تعرفنا على"عروس الصحراء" التدمرية بكل حضارتها وتاريخها العظيم بعظمة أمتنا التي ضربت بجذورها في أعماق الأرض منذ أقدم العصور، لم تفقده تدمر أو يفقده الشعب السوري فقط، بل فقدته الأمة العربية ومعها العالم الغربي برمته.
ويأتي من يستغرب أو يستنكر أن تنكس الأعلام في إيطاليا استنكارا وحزنا على موته! أن يُقدم العالم الغربي استنكاره ويدين مقتله ويعتبره خسارة للعلم والعلماء، بل يصعب عليه النطق باسمه ويطلق عليه "شخصا"! هذا الشخص له اسم وله تاريخ وله أعمال أوصلت تاريخنا إلى العالمية، هذا الشخص عالم استحق كل كلمة.. كل سطر كتب في حقه، أما من استنكر فلن يجد من ينكس محرمة ورقية يوم موته! هذا الشخص علم من أعلام العلم والمعرفة، من سينزل اسمه في تاريخ مدينته ولا ينكر قدره وقيمته إلا كل نكرة جاهل بقيمة هذا الكنز الذي خسرناه!
حقا لا يعرف قيمة المدن الأثرية القديمة قدر من مشى في أروقتها وشوارعها وانتشى بعبق التاريخ عائدا عبر الزمن في رحلة ثقافية تجعله يعيشها مع كل ذرة من كيانه، لقد زرت قبل الأزمة بفترة زمنية قليلة مدينة تدمر، كادت تفوتني تلك الخبرة الثمينة لأننا وصلنا على آخر الدوام، لكن من خلال حواري مع الحارس قدّر واستشعر مدى شغفي وحبي للتاريخ فقام باستدعاء أحد المرشدين وطلب منه العودة للموقع، كم كان غنيا بالمعلومات، حتى إني في أحد الأماكن زحفت تحت أحد الأحجار كي أرى ما كتب عليها وأرى جمال التصميمات التي كانت عليها، إن الصور ليست كالمعاينة على أرض الواقع، فلا تفي تدمر مئة صورة ولا حتى ألف، وهذا ما أقر به كل شخصيات التاريخ الحديث من رؤساء وقادة وعلماء ومفكرين ممن زاروا المدينة، كتب خالد الأسعد يقول إنه "عندما زار هوسمان رئيس بلدية باريس تدمر في أواخر القرن التاسع عشر، وأعجب بهندسة الشارع الطويل بتدمر بنى في باريس أهم شارع وهو شارع الشانزليزيه (شارع السعداء) على غرار هندسة الشارع الطويل في تدمر..... فطوبى لمهندسي تدمر العظام"، كم كان فخورا بمدينته وعروبتها حين قال: "إن قضاء ساعات بين الأطلال يخلق الإحساس بالسعادة لدى الإنسان وهو يشاهد ويستنشق أريج العطور والبخور ويلمس أمامه عظمة الأوابد ويشعر بالدهشة بعظمة التاريخ وصانعيه من القبائل العرب التدمريين (بني معزين وبني متى وبني قمارا وزبد بول....) الذين أشدوا معالمها الناطقة بكل لسان وإلى الأبد".
لقد عرّفنا خالد الأسعد إلى شعبها الذي أحبها وكيف أن، "روح الخير، والرغبة في العمل من أجل المجتمع، (كانت) سمة غالبة لأثرياء المدينة، وقد تجلى ذلك بوضوح مع مطلع القرن الثاني الميلادي، فكان هؤلاء التجار يشيدون المعابد والشوارع والساحات والأسواق والحمامات وغيرها من المباني العامة ذات التكاليف الباهظة ويقدمونها لمدينتهم"، أحبوا مدينتهم ولم يبخلوا عليها فخلدت ذكراهم، وكذلك ستخلد تدمر ذكرى من أحبها وسالت دماؤه من أجلها واتحدت مع ترابها، لقد كَتب يوما: "تدمر... وتصمت الكلمات"، وأقول له: "رحلت... وصدحت مدينتك بكل الكلمات"!