في ربيع 2009، حاول نشطاء في هيروشيما اليابان إقناع الرئيس الأميركي باراك أوباما بزيارة مدينتهم، التي أصبحت معروفة لدى العالم منذ عام 1945 كأول ضحية تاريخية للهجوم النووي عندما أسقطت الولايات المتحدة قنبلتين ذريتين على هيروشيما وناجازاكي. كان الهدف من دعوة أوباما هو الحديث إلى مئات المشاركين من طلاب المدارس المتوسطة والثانوية. تضمنت رسالة الناشطين إلى أوباما: الاعتراف برعب استخدام الأسلحة النووية والتضامن مع جهود الناشطين اليابانيين الذين يسعون إلى منع استخدامها بل إلغائها تماما، بالإضافة إلى نسخة من فوز أوباما بجائزة نوبل للسلام التي حصل عليها بعد أقل من تسعة أشهر من توليه المنصب الرئاسي في 2009 أيضا. انتهت هذه القصة بمجرد تجاهل البيت الأبيض هذه الدعوة، لكن هل كان حضوره سيغفر لأميركا جريمتها؟ هل سينسى الأبناء آباءهم والآثار التي خلفتها هذه الأسلحة على الحياة البشرية نفسيا وجسديا، بمجرد سماعهم بضع كلمات واعتذار أحمق من أوباما؟!
لا تكمن الفظاعة فقط في ارتكاب الجريمة بل في صمت العالم أيضا تجاه مرتكبها وكأن شيئا لم يكن. تمارس الحكومة الأميركية قوة هائلة على كيفية تذكر الحرب وقنبلة هيروشيما وناجازاكي، عبر صمت الإعلام النسبي أو تقديم المبررات، واستطاعت كذلك عبر ارتداء عباءة "القوة العظمى"، تنظيم وصناعة الحروب في بلدان أخرى، وإنتاج واستخدام الأسلحة النووية، ثم السماح لمن تشاء من القادة المستبدين باستخدامها وحظرها على من تشاء، وفقا لمصالحها.
يراقب عالم اليوم مجازر الوطن العربي بصمت موجع، والمجزرة التي يتحدث عنها الإعلام هذه الأيام قبل أن يعود إلى صمته أيضا هي مجزرة دوما. تقع مدينة دوما في شرق الغوطة، وهي منطقة في ضواحي العاصمة دمشق، ويبلغ تعداد سكانها "الدوامنة" ما يقارب 500 ألف نسمة، يلتف حولها العديد من القرى التابعة لها إداريا ويعتبر سوقها الكبير الذي يمتد من بداية شارع الجلاء إلى نهايته ويشطرها إلى قسمين مركزا حيويا واقتصاديا هاما تعتمد عليه جميع المناطق المحيطة بها كسوق مركزي، ما يتيح دخول الكثير من المستهلكين والباعة إليها يوميا. منذ انطلاق شرارة الثورة السورية، بدأ أهالي المدينة مشاركتهم الفعلية في تاريخ 25/3/2011 فكانت أولى تحركاتهم لكسر حاجز الخوف هي: مظاهرة حاشدة في ساحة البلدية بعد أن اختطف الأمن عددا من طلاب المدارس، للمطالبة بهم والتضامن أيضا مع مدينة درعا وأطفالها المعتقلين. منذ ذلك الوقت، أصبحت دوما وجهة نظام بشار الأسد لارتكاب المجازر. وبدأ مجزرته الجديدة بسقوط أربعة صواريخ بتاريخ 16 من هذا الشهر على سوقها الشعبي المزدحم، ما أسفر عن مقتل أكثر من 100 شخص وإصابة أكثر من 500 آخرين. صادف يوم الجمعة الماضي، الذكرى الثانية لجريمة قتل جماعي أخرى في الغوطة الشرقية بالأسلحة الكيميائية وصواريخ تحتوي على غاز السارين القاتل. في 21 أغسطس 2013، تحولت معاناة سكان الغوطة من حصار جزئي إلى كلي، حيث تم تخفيض المساعدات الغذائية والطبية إلى حد كبير، فلم يعد بالإمكان تلبية الاحتياجات الأساسية للسكان المحاصرين.
إن نقص أو حرمان شعب ما من الإمدادات الطبية يعني بسهولة: أن تتحول أمراض قابلة للعلاج إلى عقوبة إعدام جماعي. على سبيل المثال: مات العشرات من المرضى الذين يحتاجون إلى غسيل الكلى موتا بطيئا، واضطر الأطباء إلى الحد من انتظام العلاج للحفاظ على بقية الإمدادات. إن مهاجمة جميع الخدمات الأساسية اللازمة لاستمرار الحياة، يهدف إلى جعل الوضع غير صالح للعيش وكسر إرادة السكان في مقاومة النظام. لقد أدى هذا الوضع البائس إلى انتشار ظاهرة أطفال الباكيت bucket children أو الأطفال الباعة الذين يجوبون الغوطة الشرقية لتأمين الغذاء اليومي عن طريق عربات الفاكهة أو التسول، وبعض هؤلاء الأطفال يحملون الدلاء ويسيرون يوميا حوالي 15 كيلومترا بمعداتهم الخاوية على أمل العثور على بقايا طعام ومياه نظيفة. وفي حالة انعدام القانون والفقر المدقع يعاني هؤلاء الأطفال أيضا من مستويات عالية من سوء المعاملة والاستغلال في العمل، فضلا عن خطر الموت اليومي من القناصة، وقنابل البراميل أو القذائف.
رغم هذه المأساة، لا تزال الغوطة تقاوم النظام حيث يشارك سكان مدينة سقبا الواقعة داخل منطقة غوطة دمشق في مظاهرات أسبوعية كل جمعة، ويتراوح عدد السوريين المتظاهرين من بضع مئات إلى عدة آلاف، لإظهار معارضتهم للنظام، وعرض متطلباتهم على المجموعات المسلحة التابعة للمعارضة والمتهمة باحتكار المواد الغذائية والوقود، ما أدى إلى ارتفاع الأسعار وتفاقم الوضع بالنسبة للسكان الفقراء أصلا. كذلك، تم اعتقال مئات المدنيين من قبل الجماعات المسلحة، كانت هذه الاعتقالات السبب في استمرار الاحتجاجات لمدة ثلاثة أيام في مختلف أنحاء الغوطة في يونيو الماضي، حيث خرج الآلاف إلى الشارع للمطالبة بالإفراج عن المعتقلين، وتحسين الظروف المعيشية وسقوط زهران علوش، زعيم جماعة جيش الإسلام، رغم رد علوش على اتهامات محاصرة الغوطة وتجويع الناس وقوله إنها مجرد أكاذيب يعج بها الإنترنت! إن الوضع في الغوطة بل في سورية بأسرها يعد فجيعة إنسانية وفضيحة للمنظمات الدولية، حيث يعيش الناس في ظروف مرعبة، تخضع للحصار والحرب.
ماذا يرجى من القوة العظمى ورئيسها الحائز على "نوبل" السلام وتواطؤ بعض وسائل الإعلام التي تتجاهل جرائم الأسد وتهمش ضحاياه؟ وكيف نثق في قرارات الأمم المتحدة التي تستخدم غصن شجرة الزيتون شعارا لها ورمزا للسلام، أو مجلس الأمن الدولي الذي اكتفى بإدانة مجزرة دوما والإعراب عن جزعه الشديد من تحول الأزمة السورية إلى أكبر أزمة إنسانية في العالم! لا، بل ويؤكد أن "مسؤولية حماية المدنيين تقع على عاتق الحكومة السورية"؟!
سيظل دم الضحية يلاحق الجلاد إلى آخر عمره مهما طال الزمن.. سيعبث بروحه وعقله مهما بلغت درجة قوته.