أحد أكثر الأشياء التي تشرح النفس، هو وفاء الناس وشغفهم بأمكنتهم، هذا موجود أينما ذهبت، لكنك ستلاحظ هذا بجلاء حين يتعلق الأمر بمدينة جُدة. تبدو علاقة أبنائها بها أمراً سحرياً، وهذه علامةٌ أصيلة. معالي الدكتور عبدالإله عبدالعزيز باناجه، قدم كتاباً ثميناً يتناول "تاريخ جدة من أقدم العصور، حتى نهاية العهد المملوكي"، الكتاب يقع في 502 صفحة، المائة وثلاث صفحات الأخيرة منها كانت فهرسةً للأعلام والقبائل، الأمكنة، المصطلحات، الوثائق، المصادر والمراجع، وأخيراً الموضوعات، لذا سيكون من المستحيل إقامة قراءة لمثل كتابٍ بهذه الوفرة العلمية الواسعة، في مقالة محدودة، لا تستطيع سوى الإشارة إليه.
قسم المؤلف كتابه لقسمين؛ أولهما تاريخ جدة من أقدم العصور، حتى نهاية العصر المملوكي، بأربعة فصول، منذ تسميتها وموقعها الجغرافي ووجودها من التاريخ إلى الأسطورة، ثم جدة من ظهور الإسلام وحتى نهاية العصر الأيوبي، ثم جدة في العصر المملوكي، وختم بفصلٍ أخير عن نظم الإدارة في ذلك العصر، أما القسم الثاني فسجل تاريخ جدة منذ دخولها في العهد العثماني حتى نهايته، بما في ذلك العلاقة بمصر، والحركة التجارية، وغير ذلك من الأحداث السياسية والعسكرية خلال ذلك العهد، ثم أخيراً توثيق لحكام جدة خلال الحكم العثماني، ومن شغلوا منصب قائمقام بها. جاء الكتاب بتصدير الدكتور عدنان عبدالبديع اليافي، الباحث والمؤرخ، وله في جدة عدد من الكتب، ثم مقدمة كتبها المؤلف. يقول الدكتور باناجه: "بالرغم من أن المدن تتشابه في بعض المظاهر، فإنها أنواع، فمنها مدن أغفلتها الأيام، ومنها مدنٌ شغلت ذاكرة التاريخ، واحتلت مساحةً كبيرةً من صفحاته، وكان لها حضورها، ولعل من أهم هذه المدن الحاضرة في ضمير الناس مدينة جدة، حاضنة البحر".
حسناً، كم هو جميل بالفعل حين يكون الحديث عن مدينة بهذه الرحابة الإنسانية والتاريخية، وبينما توافق هذه الكلمات، نفس اليوم الذي تقدم فيه الشركة العالمية سناب شات، مختاراتها عن هذه المدينة، بألسنة ساكنيها، ليراها الملايين حول الأرض، تحت عنوان: جدة لايف، فكم أتمنى لو أن الذين سيقدمونها للعالم اطلعوا على هذا الكتاب وأمثاله، ليجدوا ما يتحدثون عنه، غير الشوارع والمطاعم والكورنيشات، فالعالم يغص بها، لكنه فقيرٌ جداً في تقديم ما هو تاريخي ومتفرّد ومؤثر. كم سيكون الناس مدهوشين فيما لو وقف أحد أبنائنا بجوار ذلك الحائط، وقال: "في الروايات أنه هنا ترقد أمّ البشر جميعاً؛ حواء".