لبنان بلد التعايش.. وبلد التنوع.. وبلد التسامح لكنه أيضا بلد التصادم والمصادرة وتغليب قوة الأقلية ثم هو أيضاً وطن الطائفية السياسية استيرادا وتصديرا.
لقد جٌبلَ اللبناني وتربى على قيمة المكسب ونزعة التربح في سعيه نحو التقاط فرص العيش الرغيد. تتمحور فردانية اللبناني وأنانيته مع التكسب وقطف المحصول إما في آخر النهار أو آخر الشهر حتى يستطيع بذلك أن يحسب على وجه الدقة حجم المتعة والرفاهية التي سيجنيها ويعتاشها، واللبناني غالباً لا ينطلق في أسلوبه وسلوكه من الفئوية أو الطائفة التي يمثلها (ماروني أو أرثوذكسي أو سني أو شيعي أو درزي) بقدر ما يمتثل منصاعاً لاحتياجه الشخصي واحتياج أسرته أو رفقته في العيشة الرغدة التي هي "كرف" وجهد في النهار وسهر متأنق في المساء في المطاعم الزاخرة أو في أحد المرابع الليلية ولا يهمه بعد ذلك طائفة أو فئة أو ميولات من يتولى الدفع له.
أعلم أن في كلامي تعميماً لا ينسجم مع منطق التقسيم الطبقي من حد الكدح إلى الكفاف صعودا إلى الوفر والشبع، لكن الأقل لبنانياً يبقى أغلبية مقارنة بالنسبة لبقية الأقطار العربية "طبعا يستثنى هنا المواطن الخليجي"، فالمواطن اللبناني بحكم سليقته التسويقية التجارية وتطبعه بالنسق الفرنسي إضافة إلى أناقته الظاهرة، وكثير من الملامح الشكلانية الغربية تجعل له تمييزاً واصطفاء يتقرب به عند الطبقات المخملية التي لا تتحقق لسواه من الجنسيات العربية.
عدت بعد غياب إلى لبنان مع أسرتي في إجازتنا السنوية لهذا العام بعد أن تلقيت قدرا وفيرا من التطمينات من بعض الأصدقاء اللبنانيين بما شجعني للذهاب، وبقيت وأسرتي قرابة الشهر نراوح صعودا وهبوطا بين الجبل والساحل. كانت رحلة ماتعة وسعيدة لي ولبقية أفراد أسرتي ويبقى أن أذكر بعض الملاحظات:
- الأسعار السياحية في المطاعم والأسواق والمنتجعات تتماثل مع الأسعار السائدة في أغلى العواصم الأوروبية.. هل تصدق؟ هذه هي الحقيقة التي تجعل السؤال الكبير: كيف يستطيع المواطن اللبناني التكيف مع هذه التكلفة بحسب متوسط تكلفة معيشته اليومية والشهرية، مع ملاحظة أنني تحريت بقدر جعلني أطمئن أن الأسعار التي تقدم لنا هي ذات الأسعار المقدمة للمواطن اللبناني، وبالتالي لا يشوبها الكيل بمكيالين كما هو الحال مع ما قد يحدث أحيانا في حالة تقاطر السائح البتروخليجي وتشكيله أغلبية يطرد وجوده الكثيف في المطاعم والأسواق أهل البلد من ارتياد هذه الأماكن.
- خلال هذه الزيارة لم ألحظ وجوداً لافتاً للسائح السعودي والخليجي، بل هم قلة يمكن ملاحظتهم بصعوبة وبشكل نادر، وهذا ما دفع كثيرا من السائقين ومقدمي الخدمات اللبنانيين في المطاعم وغيرها يرحبون بنا باحتفاء لافت عندما يعلم أحدهم أننا سعوديون، بل ويعبر عن حسرته وعن لومه لمن تسبب في نكوصنا عن المجئ إليهم، يقول أحدهم بلهجته الدارجة: "دخيل الله ما تسيبونا هيك. بدكن ترجعوا لعنا والله إشتأنا لكن كتير انتوا الخير والبركة. تعوا بنحبكوا كتير"!
- أكثر ما يلفت الانتباه في بيروت وفي جوانب الطرق الصاعدة إلى برمانة أو عالية وبحمدون وغيرها هو تراكم النفايات وتجمعها في تلال على جنبات الطرق والغريب هو تقاذف المسؤولية بين الحكومات اللبنانية وهو ما أدى بعد بقائها على حالها طوال أشهر الصيف إلى تذمر شعبي أوجد هاشتاقاً تحت عنوان "طلعت ريحتكم"، الذي بدوره قاد إلى تجمعات متظاهرة مساء البارحة في ساحتي الشهداء ورياض الصلح وما نتج عن ذلك من تصادم غليظ من قبل الأجهزة الأمنية ما خلق تذمراً شعبياً وسياسياً من ردة الفعل الأمنية القوية التي ستقود حتما خلال الأيام القادمة إلى تغير لبعض الحقائب الوزارية وحسم لقضية النفايات المخجلة.
يظل اللبناني مضيافاً بارعاً ومتكسباً ماهراً لا يجاريه في هذه المهارة أحد من العرب، والتاجر اللبناني بمهارته الجينية التجارية يحمل في داخله نية بيضاء تشبه اللبنية التي يفطر عليها، لكنه يبحث في مزاد الولاءات عمن يدفع أكثر وهذا ما يجعله في حالة استقطاب من أنظمة الخارج، وذلك كله هو ما جعل لبنان - البلد- السهل والجبل يرقد دائماً على وميض الجمر الذي يشتعل حيناً ويخمد أحياناً.