قد يبدو مقالي اليوم مقالا وعظيا، إلا أنه ليس كذلك ولا أدعي الوعظ برغم أنه شرف كبير لكنه ليس مجالي، والخوض فيما لا نعرف نقيصة. إلا أن هناك قصتين من الواقع استوقفتاني وأود مشاركتكم بهما لما فيهما من دروس أرجو أن نستفيد منها، وربما سمع بعضكم قصصا على شاكلتهما، سأروي هاتين القصتين أولا وسأعلق عليهما بعد ذلك.
القصة الأولى على لسان الشيخ سليمان الراجحي، حيث روى أنه عندما كان في الصف الثاني الابتدائي (وهو نهاية التعليم الذي وصل إليه حسب معلوماتي التي سمعتها منه شخصيا)، حدث أن أخبر معلمه أنه سيذهب للقاء والدته والسلام عليها، وكان ثوبه متسخا جدا وبه شقوق كثيرة، فما كان من ذلك المعلم الفاضل إلا أن أخرج ريالا وأعطاه الطالب سليمان الراجحي ذا السنوات السبع وقال له: "اذهب واشتر لك ثوبا جديدا ثم اذهب للقاء أمك".. ذلك المعلم لم يفعل ذلك الصنيع رغبة في الحصول على مقابل من ذلك الطالب الصغير الفقير ذي الثوب المرقع والمتسخ جدا، بل عمله كفضيلة ليدخل السرور للابن الفقير وللأم التي ستستاء عندما ترى طفلها في تلك الحالة البائسة، وذهب كل في سبيله. فما الذي حدث؟
إلى جانب الثواب الذي حصل عليه ذلك المعلم الفاضل من الله -سبحانه وتعالى- لإدخاله السرور على الأم وطفلها البائس سليمان؛ يقول الشيخ الراجحي أنه منذ عام 1363 للهجرة وهو يضحي بأضحيتين: إحدى تلكما الأضحيتين عنه وعن أهل بيته، والثانية عن ذلك المعلم مقابل ذلك الصنيع القليل العظيم.
القصة الثانية رواها صديق قريب حيث قال: كان أحد أصدقائي من الكفاءات العالية الفاضلة إلا أنه لم يُسدِ إليّ أي معروف كنت أحتاجه، وعلمت أنه كان يؤخذ رأيه في بعض الزملاء لبعض المناصب أو المواقع أو اللقاءات المهمة أو المؤتمرات وعلمت أنه لم يقترح اسمي لأي من تلك فيما اعتبرته نوعا من الإجحاف في حقي. ويضيف ذلك الصديق أنه: "لم يبدر مني أي ردة فعل تجاه كل ذلك ولم أهجر صديقي، ومع مرور الأيام اتصل بي أحد المسؤولين يريد كوادر للعمل في مجال معين.. وعلى الفور اقترحت له ذلك الصديق الذي لم يسد لي معروفا احتجته منه في السابق". وهنا نرى أن هذا الصديق قد قابل إساءة صديقه بالإحسان، ويضيف: "بعد فترة من الزمن التقيت مع أحد العاملين مع صديقي وطلبت منه الشراكة معه في إحدى الشركات، وأقسم أن كل رزقي كان نتيجة هذه الشراكة". تصوروا أن نتيجة اقتراحه لذلك الصديق قد فتح له بابا من أوسع أبواب الرزق. تصوروا أنه لم يفكر في الانتقام من صديقه.
هاتان قصتان وقفت عليهما بنفسي وكيف يفتح الله الرزق على الإنسان نتيجة إحسانه. لا أريد الدخول في تفسير الآيات والأحاديث حتى لا أقع في خطأ، لكنني استشعرت الآية الكريمة في قول الله تعالى: "ادفع بالتي هي أحسن".
نمر بأوقات صعبة مع بعض من نتعامل معهم، وفي بعض الأوقات يسيئون لنا، ويخرجوننا من طورنا، لكن هل جربنا أن نرى نتيجة عدم مقابلة إساءة الآخرين بمثلها؟ هذه ليست مثاليات مجردة كما يتصور البعض، هذه فضائل، قيم، يستطيع الإنسان أن يحيا بها، وقد حفظت من زمن مقولة للرئيس الأميركي جيفرسون:" ليست هناك ميزة تميز شخص على آخر أفضل من ميزة أن تكون هادئا وغير مُستفز تحت (كل) الظروف".
التسامح وغض الطرف وكظم الغيظ لا شك قيم إسلامية، وهي في الوقت نفسه مصدر رزق في الدنيا، وما عند الله خير وأبقى.