نشرت "الوطن" مؤخرا تقريرا صحفيا حول قيام عدة جهات حكومية بتعطيل "القرارات القضائية الصادرة عن ديوان المظالم الخاصة بإنصاف موظفي تلك الجهات الذين يتقدمون بشكاوى جماعية لطلب مستحقاتهم"، حيث تطالب الجهات الحكومية بإصدار "حكم قضائي لكل موظف على حدة"، مما ترتب على ذلك "عبئا كبيرا على المحاكم الإدارية وجهدا مهدرا نظرا للأعداد الهائلة لتلك القضايا".

لا شك أن جميع الأفراد يخضعون لسيادة القانون، ويعد القضاء الإداري في المملكة والمتمثل في "ديوان المظالم" أحد الضمانات الأساسية لسيادة النظام وتطبيق القانون، وحماية حقوق الأفراد ومصالحهم من انحراف وتعسف الجهات الحكومية.

وديوان المظالم من الأجهزة القضائية الرائدة التي نفخر بها في المملكة، وهو في الحقيقة محل ثناء عام، ومقصد الذين يشكون من تعرضهم لظلم أو سوء معاملة أو سوء استخدام سلطة من قبل موظفي الدولة، إضافة إلى كونه يمارس الرقابة القضائية على القرارات الإدارية بشكل عام.

وبالتالي فإن الأحكام القضائية الصادرة عن ديوان المظالم يتعين احترامها وتنفيذها على الفور دون تعطيل أو تأخير، وذلك تحقيقا للصالح العام، فإذا كان تحايل الجهات الحكومية على تطبيق القانون نفسه يمثل انحرافا بالسلطة؛ لما في ذلك من تجاهل لإرادة المشرع، فإن تحايلها على تنفيذ الأحكام القضائية الحائزة على حجية الشيء المقضي به، يجعل القرار الإداري الصادر من تلك الجهات بناء على ذلك مشوبا بعيب إساءة استعمال السلطة.

وبالطبع، فإن الجهات الحكومية عندما لا تقوم بتنفيذ الأحكام القضائية فهي قد تخشى على سمعتها فقط، دون الخوف من العواقب القانونية، فلا توجد قوانين رادعة لها بهذا الخصوص، وذلك لوجود فراغ تشريعي يتعلق بمعاقبة المسؤولين عن تأخير الأحكام القضائية، فتسعى تلك الجهات إلى تحقيق غرضها بوسيلة أخرى تتمثل في التحايل على تنفيذ الحكم القضائي أو عرقلة هذا التنفيذ.

فكما رأينا آنفا في تقرير "الوطن" أن حجة الجهات الحكومية في عدم تنفيذ الأحكام القضائية الصادرة عن ديوان المظالم، تتمثل في طلبها إصدار أحكام قضائية منفردة لكل موظف على حدة، واعتراضها على أنها صدرت دفعة واحدة، وهذا في الحقيقة مخالف للصالح العام والمتمثل في حفظ حقوق الموظفين، ولكن تلك الجهات تمسكت بحجج واهية كوسيلة للتحايل على تنفيذ الأحكام القضائية.

وقد تلجأ بعض الجهات الحكومية إلى أساليب أخرى مختلفة، فعلى سبيل المثال جاء في أحكام مجلس الدولة الفرنسي، قيام أحد المحافظين بإصدار قرار عدّل فيه لوائح الإسكان، لصالح بعض الملاك؛ وذلك للتهرب من تنفيذ حكم قضائي بهدم عقاراتهم المخالفة للشروط، وبناء على ذلك أصدر المجلس حكما بإلغاء قرار المحافظ الذي لا يستجيب لأية ضرورة من ضرورات الإسكان، وأن القرار في حقيقته يستهدف وضع عقبة في سبيل تنفيذ حكم محكمة استئناف (ليون) ومن ثم انتهى المجلس إلى إلغاء القرار، لكونه مشوبا بالانحراف بالسلطة.

وهناك أمثلة كثيرة في الواقع العملي على أساليب التحايل والتهرب من تنفيذ الأحكام القضائية، حتى وصل الحال ببعض المسؤولين إلى تحدي تلك الأحكام وطرد المحكوم له من مكاتبهم بكل عنجهية وغطرسة بيروقراطية!

وهنا قد يقول قائل إن هناك "أمرا ساميا بالرقم (9624/م ب) وتاريخ 22/11/1430 بشأن وجوب تنفيذ الجهات الحكومية للأحكام القضائية الصادرة ضدها، حيث جاء فيه (توجيه الجهات الحكومية عند تسلمها الأحكام القضائية المذيلة بالصيغة التنفيذية الصادرة ضدها من المحاكم، باتخاذ الإجراءات الفورية لتنفيذها..)، وبالتالي يستطيع المتضرر من تعطيل الأحكام التوجه إلى إمارة المنطقة لتنفيذه فورا.

وأجيب على الرأي السابق بالقول: لا توجد قوانين رادعة أو عقوبات ضد المسؤول عن تعطيل الأحكام القضائية، إضافة إلى أن الجهات الحكومية لا تعطل الأحكام بشكل مباشر، وإنما عن طريق التحايل باختلاق الحجج والمبررات المختلفة، كما أن إمارات المناطق ليست مختصة بتنفيذ الأحكام القضائية الإدارية الصادرة ضد الجهات الحكومية. ثم إن دور ديوان المظالم يتمثل في إصدار الحكم القضائي النهائي، ولا سلطة له في التنفيذ، فالديوان جهة قضائية مستقلة، وذلك استنادا إلى المبادئ القانونية التي تحدد الفصل بين السلطات الثلاث التشريعية والقضائية والتنفيذية.

ولهذا فإن بعض الجهات الحكومية تقوم بالمماطلة والتأخير في تنفيذ الأحكام القضائية، مستغلة في ذلك الثغرات التي ذكرناها آنفا، وهذا في نظري استهتار بأحكام القضاء التي يفترض فيها أنها كاشفة للحقيقة، ورادعة للإدارة الحكومية لما ارتكبته من ظلم وعسف ضد من صدر لصالحه الحكم سواء كان موظفا أو شركة أو مؤسسة.

صحيح أن وضع القوانين التي تجرم صراحة امتناع أي مسؤول حكومي عن تنفيذ حكم قضائي صادر ضد إدارته، وكذلك وجود العقوبات الواجب تطبيقها على كل من يرتكب مثل هذا السلوك والذي من شأنه تعطيل العدالة وتفريغ أحكام القضاء من محتواها، هي مطلب ضروري وتعالج جزءا كبيرا من المشكلة. لكن تظل الإشكالية قائمة حتى في ظل وجود تلك القوانين، وهي عملية التحايل على تنفيذ الأحكام القضائية، والحل في نظري الآن يتمثل في إخضاع قرارات الامتناع أو التأخير، وكذلك الحجج والمبررات إلى رقابة ديوان المظالم، باعتبار أن مثل تلك القرارات الإدارية مشوبة بالانحراف بالسلطة.

وعند ثبوت الانحراف بالسلطة بالنسبة للمسؤول عن تعطيل أو تأخير الحكم القضائي، فإن مثل هذا الأمر يجرح الثقة في المسؤول وتعد نقطة سوداء في ملفه، وتدخل ضمن "المعايير التي يتم بموجبها تقييم الوزراء والمسؤولين، وقياس مدى كفايتهم وصلاحيتهم للوظيفة، بحيث يعتبر عدم تنفيذ الأحكام القضائية نقطة سلبية لها اعتبارها في تقييم الوزير أو المسؤول".

وبالتالي يستطيع المتضرر من تعطيل أو تأخير الحكم القضائي الصادر لصالحه رفع قضية انحراف بالسلطة ضد الجهة الحكومية المماطلة، على أن يتم إصدار قوانين وعقوبات ضد من تثبت مسؤوليته عن هذا الانحراف.