لا نزال نتحدث عن منهج ابن تيمية في التكفير، ولا نزال نبين لمن يفتري على هذا الإمام العظيم يرحمه الله –من بعض أتباعه وخصومه معا- عوار قراءته، واجتزائه، وضعف نظره تجاه المنهج الكلي لهذا العالم الجليل.

قدمنا في المقالة السابقة قاعدتين من قواعد ابن تيمية في التكفير، إحداهما ينص فيها على أن تكفير الطائفة لغيرها من طوائف "أهل القبلة" ما هو إلا "بدعة منكرة"، وأخراهما ينص فيها على أنه لا يجوز التكفير في المسائل التي تنازع فيها أهل القبلة.

قاعدتان، وفي هذه المقالة أضيف قاعدتين أخريين من قواعد منهج الإمام ابن تيمية في التكفير؛ ليطلع المنصفون على منهج هذا الإمام الفذ.

3.  "المتأول" سواء أكان مبتدعا أو مرتكبا للكبيرة يعذر بالجهل، ولا يكفر أو يفسق حتى تقام عليه الحجة الرسالية، بزوال الشبهات والاعتراضات.

وفي هذا ينص ابن تيمية على أن: "غيبة العقل تكون عذرا في رفع القلم، وكذلك الشبهة التي ترفع معها قيام الحجة: قد تكون عذرا في الظاهر".

فهناك شبهات لا تقوم بسببها الحجة على المخالفين، وليس مجرد سرد الآراء المخالفة يرفع الشبهة، وقد جادل ابن تيمية الأشاعرة في عصره فأطال المناظرة والجدال، وقال في كتابه الذي رد فيه على أحد الأشاعرة الذين كفروه، قال: "كنت أقول للجهمية من الحلولية، والنفاة الذين نفوا أن الله فوق العرش لما وقعت محنتهم: أنا لو وافقتكم، كنت كافرا؛ لأني أعلم أن قولكم كفر، وأنتم عندي لا تكفرون؛ لأنكم جهال".

ولم يكن هذا الخطاب موجها إلى عوامهم، بل إلى العلماء والقضاة من علماء الأشاعرة، فكيف بعوامهم إذن؟ ولم ير الإمام ابن تيمية وهو الذي قضى حياته يرد على مخالفيه من الأشعرية والشيعة معا، لم ير الإمام أن طول النقاش مع هؤلاء والجدل والحجاج كاف ليحكم بكفرهم، مع اعتقاده أن بعض آرائهم هي الكفر بعينه. فكيف يسوغ امرؤ لنفسه أن يفرق بين العلماء والعوام فيكفر العلماء دون العوام بزعمه، وهذا ابن تيمية لم يكفر حتى العلماء رغم أنه يرى أقوالهم كفرا؟ ولا سيما قولهم بالحلول؟ والحلول هو اعتقاد أن الله تعالى حالّ في مخلوقاته، والعياذ بالله من هذا؛ فإنه اعتقاد كفري بلا مثنوية ولا مرية، ولكن ابن تيمية مع هذا لم يكفر "العلماء والقضاة" الذين قالوا به، لأنهم عنده متأولون جهال، غلبت عليهم الشبهة رغم الحجاج الدائم والمناظرات المتكررة.

أين هذا من منهج الدواعش وأشباه الدواعش الذين يزعمون أنهم أتباع ابن تيمية وهم لا يعذرون بالجهل كما يعذر، حتى قال الإمام الذهبي فيه: "ومذهبه –يعني ابن تيمية– توسعة العذر للخلق".

ثم يأتي بعد هذا غرٌّ عجول جاهل يزعم أنه من أتباع ابن تيمية فيكفر خصومه بكل نزق، أو مدّع للتثقف والتنور فيرى أن ابن تيمية تكفيري، لا والله إن منهج ابن تيمية لمن أبعد المناهج عن التكفير.

4. من اجتهد في أصول الدين فهو معذور:

وهي قاعدة نفيسة من قواعد الإمام الجليل، أن من "اجتهد" في أصل من أصول الدين فأداه اجتهاده إلى خلاف الحق فهو معذور، فلا يكفر ولا يفسق؛ لأنه مجتهد.

وفي هذا يقول ابن تيمية: "الأقوال التي يكفر قائلها قد يكون الرجل لم تبلغه النصوص الموجبة لمعرفة الحق، وقد تكون عنده ولم تثبت عنده أو لم يتمكن من فهمها، وقد يكون قد عرضت له شبهات يعذره الله بها، فمن كان من المؤمنين مجتهدا في طلب الحق وأخطأ فإن الله يغفر له خطأه كائنا ما كان سواء كان في المسائل النظرية أو العملية هذا الذي عليه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وجماهير أئمة الإسلام، وما قسموا المسائل إلى مسائل أصول يكفر بإنكارها ومسائل فروع لا يكفر بإنكارها. فأما التفريق بين نوع وتسميته مسائل الأصول وبين نوع آخر، وتسميته مسائل الفروع فهذا الفرق ليس له أصل لا عن الصحابة ولا عن التابعين لهم بإحسان ولا أئمة الإسلام وإنما هو مأخوذ عن المعتزلة وأمثالهم من أهل البدع".

وهكذا، لا نجد ابن تيمية يفرق في الاجتهاد بين أصول الدين وفروعه، فالمجتهد في أصول الدين عنده معذور تماما كالمجتهد في فروع الدين والفقه حتى لو أداه اجتهاده إلى أقوال هي الكفر بعينه، ويردّ ابن تيمية هذا التفريق بين أصول الدين وفروعه ويراه باطلا، إذ هو تفريق حادث اخترعه المعتزلة، لم يعرفه الصحابة ولا التابعون، ولا أصل له!

أقول: أفمن يقول هذا الكلام، ومن يؤصل هذه القواعد الجليلة في التكفير، يصح أن يسمّى تكفيريا؟

فتأمل أخي القارئ سعة صدر ابن تيمية يرحمه الله، وتأمل هذا المنهج الذي يلتمس العذر للناس، ثم تأمل واقع بعض من يدعي أنه من أتباع ابن تيمية، وهو أبعد الناس عن منهج ابن تيمية يرحمه الله، كالدواعش وأشباههم، فيسارع في التكفير بلا علم ولا هدى ولا كتاب منير، ثم ينسب نفسه إلى ابن تيمية، وابن تيمية من هؤلاء براء، رحم الله ابن تيمية الإمام المفترى عليه.