ك0.كثيرا ما قرأنا وسمعنا عن أولئك العباقرة والمشاهير الذين عانوا في بدايات تحصيلهم الدراسي، وكيف استطاعوا بعد ذلك أن يتجاوزوا العقبات وأن ينتزعوا من العالم الاعتراف بعبقريتهم ومواهبهم.
عرفنا عن اتهام معلمي (أديسون) له بالغباء، وعن رسوب (آينشتاين) المتكرر، وعن هروب (تشرشل) من المدرسة، وعن حالات أخرى كان يستغلّها الواعظون لنا بعدم اليأس والتحلّي بالجلادة؛ اقتداء بسير هؤلاء العظماء، وقد يستعين البعض بهذه القصص للإشارة إلى أن الله على كل شيء قدير، أ ليس هو الذي يغيّر الأمور من حال إلى حال؟
ليس لدينا شك بقدرة الله على كلّ حال، كما ليس لدينا موقف مضاد من أهمية الصبر وعدم الهزيمة أمام اليأس. ولكن من المهم ألا نعول كثيرا على هذه الطريقة الوعظية؛ ذلك لأن في كل قصة نجاح من تلك القصص كثير من الحلقات المفقودة التي يستبعدها وعاظ التنمية البشرية وغيرهم؛ لأنها قد تفسد الجو التحفيزي الذي ينشدونه في خطاباتهم.
هذا بعض ما لاح لي وأنا أشاهد ذلك الفيلم الهندي العظيم (نجوم على الأرض) من إخراج وبطولة النجم عامر خان. وهو فيلم يحكي قصة طفل يعاني صعوبة في القراءة والحساب، نتيجة وقوعه تحت تأثير إحدى حالات (صعوبات التعلّم) مع عدم تفهم أساتذته وأسرته لحالته بسبب جهلهم التام بأبعادها.
كان الطفل في الفيلم يعاني من نمط (الديسلكسيا) المتعلق بصعوبة القراءة والتعامل مع الكلمات المكتوبة، وهو نفس النمط الذي كان يعاني منه (ليونارد دافنشي وأديسون ووالت ديزني) وغيرهم.
والديسلكسيا ليس النمط الوحيد من أنماط صعوبات التعلّم، فهناك (الديسجرافيا) المتعلق بصعوبة الكتابة باليد، ومن المفارقات بأن هذا النمط ذاته عانت منه (أجاثا كريستي) الكاتبة العالمية الغنية عن التعريف!
هناك أيضا (الديسكالوكيولا) المتعلق بصعوبة التعامل مع الأرقام والعمليات الحسابية، وأشهر من أصيب به في نشأته داهية السياسة ونستون تشرشل الزعيم البريطاني المعروف.
إذن فهناك حالات علمية معروفة مسؤولة عن القصور الدراسي لدى أولئك المشاهير في بداية حياتهم، أما الحلقات المفقودة التي لا يود الحديث عنها أحد، هي تلك المنعطفات القدرية المصادفة التي تيسرت لكل منهم بحيث استطاع التغلب من خلالها على الصعوبة التي أعاقت تقدمه المعرفي. وهذا ما أدعو المهتمين إلى التعرف عليه بأنفسهم لضيق مساحة المقال عن التعريج إليها بالحديث.
إذن فهناك ما هو أولى من النظر إلى تجارب هؤلاء المشاهير بعين الإعجاب، وهو النظر بعين المرارة إلى الآخرين الذين عانوا معاناتهم نفسها. فكم واحد على سبيل المثال لا يقل عبقرية عن أديسون، تلاشت مواهبه بسبب انخفاض تقديره لذاته الذي انعكس عن عدم تفهم المحيط لمشكلته أو معرفته العلمية بها.
كم من المعلمين يا ترى من صدّع رؤوس تلامذته بقصصه عن جلادة نيوتن وآينشتاين، في الحين الذي تحول بسبب جهله وتعنته مسار أكثر من نيوتن انتهى به الحال حارس أمن أمام أحد البنوك أو سائق تاكسي في (سرى) المطار!
لقد أصبحت صعوبات التعلّم حقلا معرفيا محترما في أغلب جهات العالم، وتطورت فيه الأساليب التربوية في التشخيص والعلاج، ولكنّا رغم ذلك ما زلنا نجهل الكثير عنه، ليس كآباء وأولياء أمور فحسب بل كمعلمين وتربويين أيضا.
ما زال هناك من ينظر إلى نفور الطفل من التعليم ورفضه للكتابة بعناد كمشكلة بحدّ ذاتها، دون أن يتنبه إلى كونه يتعامل مع عرض لمشكلة ليس إلا، فلا ينشغل باله بالبحث عن سبب المشكلة فضلا عن علاجها.
ولعل من المجدي هنا التنبيه إلى خطر ما يسمونه (تحيز المعرفة)، وهو التحيز الذي يدفع كل شخص يعرف بعض الأمور إلى التوهم بأن معرفتها سهلة على الجميع، فيصعب عليه تفهم عجز الآخرين عن معرفتهم ما يعتبره هو من البدهيات، كثيرا ما دعا هذا التحيّز الكبار إلى القسوة على أطفالهم عند عجزهم عن التعلّم.
من المهم في نظري التخلي عن استعمالنا الوعظي لتلك القصص الذي لا ينشأ عنه في مخيلة الناشئة سوى التعويل على التعويذات السحرية، التي سوف تنتقل بهم من حال إلى حال. والبدء في التوجيه المسؤول لما نعرفه من تلك المعلومات نحو إنقاذ الكثيرين ومساعدتهم في صنع المستقبل الأفضل للجميع.
فإذا لم يكن بالإمكان تأهيل كل المعلمين للتعامل بشكل خاص مع (صعوبات التعلّم) فمن المفترض على الأقل ألا تخلو مدرسة واحدة من متخصص في هذا الحقل؛ ليقدّم المساعدة لمن تنطبق عليهم شروط تخصصه المعرفي.
هذا إذا كنا لا نريد هدر المزيد من مواردنا البشرية. هذا إذا كنا لا نريد أن نصادف آينشتاين في المطار وهو يعبث بشاربه قائلا: (تكس يا لأخو)!