لا نستطيع الإنكار أننا في مجتمع يفترض الكمال المطلق في نفسه، بسبب انتمائه الديني للإسلام الذي بُعث به نبينا الكريم محمد عليه السلام كخاتم للأديان السماوية، ووضع له أسسه المنهجية في مختلف مجالات الحياة مستندا إلى الوحي الإلهي المقدس، حتى أوجد أمةً جديدة في تلك الحقبة من التاريخ استطاعت على مدى عدة عقود أن تفرض سيطرتها وتثبت قوتها وعبقريتها الاجتماعية والسياسية وأن تنشر الدين الإسلامي في أجزاء كبيرة من العالم.

مبدأ "الكمال" الذي يعتقده الكثير في أنفسهم لمجرد انتمائهم للدين الإسلامي يتعارض كثيرا مع واقعهم المعاش، وتصرفاتهم الفردية أو الجمعية تبتعد كثيرا عن المبادئ والأخلاق والأساليب التي ينص عليها الإسلام، بل نجد بعضها ينافيه تماما وينتقص من "السمو" الأخلاقي الذي يمتاز به هذا الدين.

أكثر منطقة شائكة في هذا الموضوع تدور حول العلاقات الإنسانية في المجتمع الإسلامي وخاصة العلاقة مع المرأة التي لم تهدأ يوما، وبقيت محل جدل ونقاش ورؤى مختلفة ومتباينة وصراع بين عدة أطراف لا نعلم متى يهدأ، خاصة في مجتمعنا السعودي الذي لا تزال جدلية المرأة والمجتمع لديه قائمة، لا يكاد ينقضي منه أمر أو قضية حتى تفتح أخرى ويثار حولها التنظير الذي غالبا ما تكون هي برأيها خارجة عن الإدلاء فيه، إما لأنها تعودت ألا تملك رأيا يخصها في شؤونها ولم تناضل من أجله، وإما لأنها تؤمن أن حياة الظل هي ما تستحقه بالفعل، وهذا ما رسخته الأيديولوجيا الدينية في ذهن الكثير، نساءً ورجالا، حولنا.

ولكي تكون الصورة واضحة ومركزة وهي تستمد فكرتها من الواقع؛ سأذكر موقفا شخصيا بإيجاز حدث خلال الأسبوع المنصرم في مدينة أبها، حينما وجهت لي دعوة رسمية للمشاركة بإدارة أمسية شعرية لإحدى الجهات في أحد المواقع التي يقام فيها جزء من فعاليات الصيف الرسمية بالمنطقة بالشراكة بين عدة جهات. كانت الأمسية لعدد من الشاعرات وموجهة لجمهور نسائي في المجمل، ولكنني آثرت الانسحاب وعدم إدارة الأمسية بسبب إلحاح إدارة الموقع واعتراضهم على مظهري الخارجي بحجة عدم "شرعية" ما أرتديه من عباءة واقتراحهم أن يعيروني أُخرى بالمقاييس التي يرون أنها الأفضل أثناء صعودي على المسرح.

لم أكن متفاجئة جدا من هذا التصرف، لأنه الأسلوب المعتاد في تعامل الكثير من النساء مع بعضهن البعض حينما لا تتوافق امرأة مع إحداهن في الشكل والذي أصبح للأسف المقياس للتعامل والحكم على الأشخاص. ما كان لافتا أكثر في هذا الموقع الذي يضم المئات من الفتيات والسيدات من مختلف الأعمار -غير طغيان اللون الأسود عليهن وهن في موقع نسائي- أن العشرات من الصغيرات في السن انبرين لمناصحتي حتى ظننت أنني أحدثت في الدين أمرًا لا أعلمه! فواحدة تذكرني بعذاب جهنم، وأخرى تقسم أنها تخاف علي وتشفق، وثالثة تتحدث بتأفف وكمال متعال. وأنا أنصت لهن في ذهول لما يظهر من إيمانهن التام بصحة ما يعتقدن وبالتسليم والانقياد لتصورات شكلية يقيمن الآخر عليها، وأعلم أن هناك الآلاف مثلهن، من الجنسين، من صوّر لهن التدين شكلا، ومن يؤمن بالأفضلية والكمال اللذين يقصيان الآخر ويدينانه في تعامله معه، وربما يقودان إلى رفضه أو إيذائه ما دام ليس على شاكلته.

وعند محاولة من بعض المشرفات على الموقع التهدئة وإقناعي بالتراجع عن قرار الانسحاب دار بيننا حديث طويل، سألت فيه عن رأيهم في "حرية" الآخر وكيف يعملن كمربيات وموجهات لهذه الأعداد الكبيرة من الفتيات الصغيرات في السن والقليلات الخبرة والتجربة.. كيف يعملن على زرع قيم الإسلام الأصيلة من حرية فردية، واحترام للآخر، والخروج من الإطار الشكلي للفرد، والتي جميعها أمور تقود إلى التطرف والانقسام الذي نحن الآن أحوج ما نكون إلى محاربته، خاصة أن جرح المكان في تفجير مسجد طوارئ أبها ما زال نديا، فأخبرتني إحداهن بأن الأساس المعلن الذي يقوم عليه الموقع هو: "الوسطية والاعتدال"، فأخبرتها أن ما شاهدته من رفض وإقصاء بسبب مظهر لا يتناسب مع مقاييس تخصهم لم يكن فيه شيء من الوسطية والاعتدال المدعيين.

أن تكون "وسطيا" و"معتدلا" في حياتك الخاصة وفي نظرتك وتعاملك مع الآخرين؛ يعني بشكل كبير أن تتقبل الاختلاف والتفاوت الذي هو طبيعة الله في خلقه، سواء كان هذا الاختلاف شكليا في ظاهر التكوين المادي، أو جوهريا بما يمكن أن تكون عليه النفس البشرية من تفاوت معنوي في الفهم والإدراك والإيمان والوعي والأخلاق. الوسطية: ألا تكون رهين التطرف الذي يلغي الآخر من حسابات تعاملك، وألا تكون في آخر الصف أو خارجه، لا رأي لك ولا تملك من الأمر شيئا سوى التبعية العمياء والانقياد المطلق. الاعتدال: أن توازن أمور حياتك وأساليب تعاملك حتى مع خالقك فلا تميل كل الميل لجهة دون أخرى. وتؤمن أن الاختلاف بين البشر يلغي المثالية والكمال اللذين نفترضهما في أنفسنا، وبسببهما قد نعامل الآخرين بأساليب هي الأبعد عن حقيقة الوسطية والاعتدال اللذين لا نجدهما في واقعنا المعاش.

منذ القرن الرابع الهجري قال أبو حيان التوحيدي: "إن الإنسان أشكل عليه الإنسان"، وما زال الإنسان إلى اليوم يجهل ذاته ويقفز على البحث في حقيقتها إلى الآخرين، ونستميحه عذرا في القياس على قوله "بخصوصية" اعتدناها مع مجتمعنا السعودي لنقول: "إن الإنسان "السعودي" أشكلت عليه "المرأة"!

وللحديث بقية.