أي شيء يمكن أن فعله إذا استشرى الغباء والتناقض والاختناق، لهذا الحد، سوى التواري، والوقوف على رأس كلمات تناهض الأيام البليدة، إن الذين يطمحون على الدوام أن يكون لكل ثانية طعم ولون، ومعنى ورائحة، معرضون أكثر من أي أحد للكآبة. لا بد أن شكسبير كان يضع يده على كبده ويتألم، وهو يقول: "قلبٌ لا يبالي يعيش طويلاً".

لا يبالي يعني لا يهتم، لا يقلقه إن كان الزمن يتحرك بخفة وأمل وإشعاع أم أن كل شيء يبدو واقفا، غارقا لأقصاه في البلادة، والوقت يمر بلا أدنى جلبة أو تأثير أو حياة. في الحكمة اليابانية يقولون: "يتعب الإنسان، أكثر ما يتعب، وهو واقف مكانه"، الغريب أنه يشاع عن اليابانيين أنهم شعب ممل، حتى إن ماركيز حاول ممازحتهم، وقال إنه يعدّ أصدقاءه منهم، قبل أن يودعهم نهاية كل لقاء، لأنه لا يعرف أيهم سينتحر ولن يجده في اللقاء التالي. أظن أن ماركيز مات ولم يضحك ياباني واحد على هذه المزحة.

إننا بحاجة إلى شيء بهيج غير الحروب والنزاع وأخبار القتلة ودوي الانفجارات وقطع اللحم البشرية المتناثرة من مكان لمكان، غير التضييق على الهواء الشخصي، غير هذا الوباء المرير الذي يسمونه "الخصوصية"، وهو من حين لآخر يأخذ شكلا غير الذي قبله، متعذرا بالحجج الخائبة والمكررة نفسها، ليحاصر بلا رادع مشيتنا، البطيئة أصلا، نحو ما هو طبيعي وإنساني ومستحق. إننا بحاجة إلى شيء يمنحنا قصة نقولها بفرح وتطلّع، ندور بتفاصيلها في مجالسنا وثرثراتنا اليومية، ونستعملها كتعويذة نكسر بها رتابة الشرور والملالة، نقولها بمفاخرة، مبرزين ضحكنا السعيد دون توجس من ثقل الأيام.

في الرواية الصادرة ترجمتها للعربية عن دار طوى، العام الماضي 2014، تعريب منذر عياشي، واسمها "كل البشر كاذبون"، كتب الروائي الأرجنتيني ألبرتو مانغويل: "في هذا الزمن، كنا نمشي في بوينس آيرس منكسي الرؤوس، قاصدين أن لا نرى شيئا، وأن لا نسمع شيئا، وأن لا ننبس ببنت شفة، وكنا نقصد أن لا نفكر، لأننا كنا نعتقد في النهاية أن الآخرين يقرأون أفكارنا". هكذا إذاً! كلما شدتنا إليها الأيام البليدة، فإننا نقصد أن لا نفكر، لأننا نعتقد أن الآخرين يقرأون أفكارنا.