تراجعت بشكل مخيف الأفكار العامة الضابطة أخلاقيا واجتماعيا وسياسيا والتي يبلورها مفكر ما ويفني حياته كله لنشرها وتطبيقها إنسانيا وفكريا على مجتمعه أو مجتمعات قريبة منه.

منذ أرسطو وعلم الأخلاق والسياسة قبل الميلاد وحتى "العولمة" كانت الأفكار تتحرك بشكل فردي عبر الزمن والمجتمعات حركة تراكمية بطيئة، اليوم شاب كجاك دورسي أو إيفان شبيغل لا يمكن مقارنة تأثيره وعمق أفكاره على البشرية من أرسطو أو أوغسطين ولا ماركس، الزمن تغير صحيح ولكن الوسائل عينها متماثلة مقارنة بكل زمن وإن نسبيا، الملفت أن الدافع الأخلاقي والإحساس العالي بالعدالة والحرية والمساواة والتي أنفق الكثير من الأخلاقيين مفكرين وسواهم حيواتهم من أجلها انقلب إلى دافع مصلحي بحت له مظاهره المتوحشة والدموية.

جاء هؤلاء المتحمسون الثوريون ومن مرآب سيارات أهليهم بهذه الأفكار العابرة وطبقوها ببساطة وبدوافع ذاتية بل أحيانا أنانية وتافهة، زوكربيرغ جاء بفكرة "فيسبوك" فقط ليغازل فتيات جامعته بهذه الحيلة التقنية، كيف لك أن تجعل الناس بمختلف أجناسهم وأفكارهم وخلفياتهم الاجتماعية والدينية والجغرافية والثقافية واللغوية يتحاورون بذات اللحظة وبذات الحماس ويتحدثون عن كل مشاكلهم وهمومهم وتطلعاتهم ويعبرون عنها بنفس القدر من المساواة والعدل؟ اليوم تختفي فكرة المشاريع الفكرية الأخلاقية المنهجية لصالح مشاريع فكرية تقنية حرة مربحة وليس لها عباءة سياسية، صحيح أنها قد تستغل ولكن ليس لها بعد سياسي واضح وصريح، وأيضا لا تحاول أن تضفي طابعا أخلاقيا، إذ إنها ليست ضمن خيارات الأخلاق ولا السياسة لكن هو العلم الذي دخل لاحقا ضمن الاقتصاد والأموال الهائلة والاستثمارات التي تصنع الفرص للناس.

علم ومنفعة وفائدة ومعرفة وحرية في التعبير ومساواة صارمة بشروط واضحة وبسيطة للجميع. هذا ما احتاجت له البشرية منذ قرون، وما لم تحققه السياسة حققته التقنية، وما لم تفرضه السياسة فرضته التقنية وأفكارها الخلاقة المبهرة.