لا يحتاج "الأستاذ" لشهادات مهنية، فهو يمثل إحدى أخطر مدارسها وهي: "صحافة الوصاية" التي يتجاوز جمهورها عوام الناس، لكنه يصل للحاكم وكبار معاونيه ومستشاريه، غير أن هيكل يحتاج إلى شهادة "حُسن سير وسلوك" من جمهور يُقدر بالملايين، ويرى كثيرون أنه أفنى عمره وما زال يسعى للعب دور "العرّاب" الذي مارسه إبان العهد الناصري وبداية حكم السادات، ناهيك عن علاقاته الوثيقة بلاعبين إقليميين كإيران وسورية وغيرهما.

ولا أحد ينكر على هيكل المكانة التي وصل إليها فهو صحفي متميز له شبكة علاقات دولية لم يصل إليها أي صحفي في المنطقة وله اطلاع واسع في السياسة الدولية ومع ذلك فهو لغز كبير صنعته تحولات توجهاته قد كان صديقا حميما لعبد الناصر، لكنه انقلب على رفاقه وأقرب أصدقائه الذين أسماهم "مراكز القوى" وبعدما انتهت مهمته استبعده الثعلب السياسي -السادات- من المشهد فانقلب عليه وبلغت خصومته معه لدرجة الفحش حينما أصدر كتابه الشهير "خريف الغضب".

ومنذ بداية عهد مبارك حاول أن يخطب وده لكن محاولاته باءت بالفشل وتجاهله فانقلب عليه، وحتى الآن يؤيد الرئيس السيسي، لكني لا أستبعد أن ينقلب عليه يوما، إذا تيقن الرئيس القادم من دوائر المخابرات مساعي هيكل لممارسة الوصاية على النظام الحالي، الذي يستكمل ملامحه ورجاله.

وبالطبع فكل هذه مواقف سياسية ربما نختلف أو نتفق معها، لكن تبقى "جدلية هيكل" لأدواره المتناقضة من دعم السادات بالسلطة ومشاركته بوضع سياسة إعلامية قبل وأثناء حرب أكتوبر 1973، ثم انقلابه على السادات، لهذا وصفه بعض أبناء جيله بالانتهازية، واتهمه آخرون بعلاقاته بأجهزة مخابرات دولية، وأنه مارس دور "البروباجنديست" لصالح مشروع القومية العربية الفاشل الذي دفن في رمال سيناء بعدما احتلتها إسرائيل إثر واحدة من مهازل التاريخ، وأكثر فصول المواجهة عبثية، وهنا نتحدث أيضا عن مغالطاته وأحكامه المتعسفة على وقائع وشخصيات دون استناد لأي توثيق منهجي، مستفيدا من إتقانه لآلية ذكية في تسويق أفكاره، بما يملكه من لياقة ذهنية وحالة كهنوتية داخل الوسط الصحافي المصري والعربي.

تُحاصر مخيلتي صورة الصحفي "محفوظ عجب" بطل رواية "دموع صاحبة الجلالة" لأبرز معاصريه ومعارضيه موسى صبري، والذي جسّد شخصية الصحفي الانتهازي الذي يصعد على جثث زملائه لتحقيق مصالحه الخاصة، إضافة لروح الانتقام التي تحكمه ليمارس لعبته المفضلة فُحش الخصومة مع شخصيات، بل ودول كبرى مثل المملكة العربية السعودية مثلا، رغم أنها أبرز داعمي مشروع السيسي والجمهورية الجديدة، فكيف نُفسر إذن دوافع هيكل سوى باقتران انتهازيته بروح الانتقام التي تسكنه، والابتزاز الذي برع فيه الأستاذ، وكان مرات كثيرة طرفا في أزمات وتحالفات ومؤامرات دولية وإقليمية، فهل ما زال "محفوظ عجب" بيننا؟ والجواب: نعم بالتأكيد.

هيكل العابر للحدود تربطه علاقات دافئة مع النظام السوري، وأمين "حزب الله" اللبناني الموالي لطهران، التي ترتبط بدورها بأدوار قديمة لعبها هيكل منذ وصول الخميني للسلطة، وكتاباته الداعمة لمشروع "ولاية الفقيه" واتصالاته الوثيقة بها، فليس سرا أنه كان وما زال أحد أبرز رجال إيران بالمنطقة، وهذا مدخل آخر لفهم حقيقة ودوافع تصريحاته المتحرشة بالسعودية ونظامها ومستقبلها، وبالتالي فهو يضع الرئيس السيسي في حرج لدى أبرز حلفائه بالمنطقة، لهذا يحق لنا التشكيك برغبة الثعلب التسعيني بوصاية ناعمة بالشؤون الداخلية وخشنة خارجيا بالنظر لارتباطاته القديمة بعدة قوى إقليمية ومصالحه المستمرة معها.

قصارى القول: يبدو أن "العم هيكل" في خريف عمره مسكون بثقافة الاجترار والابتزاز، وذهنية الوصاية على مستقبل وعقول الحكّام والعوام، ولا يُعفي رجلا بقامة هيكل وتاريخه، أنه يمتلك أدوات الصنعة وفنونها، فبراعته في "فقه الأسلوب" ونحت العبارات وألاعيب المناورات، واستدراج الجمهور لحالة النشوة والطرب، وكل هذه الأدوات تُحسب ضده، فأن يكون الشرير حاذقا.. فلا يعفيه ذلك بالطبع من مسؤوليته الأخلاقية والسياسية والتاريخية.