حوار دار كثيرا بين الأصدقاء والمفكرين والكتاب كنت أرصده عن الثقافة وعن المثقف. وقد بدا لي ذلك الاختلاف بين جميع الأطراف عن ماهية الثقافة، وما هي، وما هو معينها، وهل هي محصورة على النخبة أم أنها متاحة لكل إنسان نستطيع أن نطلق عليه مثقفا؟ جدل واسع وتشبث بالرأي لدى كل طرف لا يزال يقفل رأسه على مكنون فهمه هو دون غيره!

ثم إن هناك تساؤلا آخر وهو: هل كل مفكر مثقف؟ وأيهما يسبق الآخر؟

والمسألة بسيطة وسهلة إذا ما استطعنا تحديد المفاهيم. ما الثقافة؟ وما التفكير؟ وما عملياته الدماغية، وكيف يتفاعلان في أوان مستطرقة! أسئلة ملحة تجعل الواحد منا مدركا واعيا مفكرا وبدون وصاية.

المثقف في تعريفه اللغوي هو اسم مفعول من ثقَّف. وثقف تعني في أصلها من هذب العود وشذبه (ثقفه). فهل ذلك يعني أن الواحد منا يتم تشذيبه وتهذيبه أي تثقيفه، إذا ما اتبعنا المعنى في مرادفه؟! وهو ما يحمله المعنى إن أردنا أن نأخذه بظاهره. ومن هنا ينتفي قول المناطقة عن أن الثقافة هي كل ذلك التراكم المعرفي منذ الطفولة حتى الممات، والفلاسفة المسلمون أسندوا ذلك إلى الحواس الخمس واحتباسها داخل ما أسموه بالمتخلية، فهي التي تنتج على الكائن البشري بما يفكر وما ينطق، أما سجموند فرويد فقد أسماها لوح النقش، وعلماء النفس أطلقوا عليه الإطار المرجعي، أما أنا فأسميته الصندوق الأسود. وذلك هو تعريف الثقافة كاصطلاح ومفهوم. ومن هنا ربط جل المفكرين والمنظرين بين الثقافة والسلوك المجتمعي، حيث إنها لا توجد ثقافة بدون مجتمع، وبالتالي تجتمع كل العلوم الإنسانية والسلوك المجتمعي في ضفيرة واحدة تنتج حينها تكوين الشخصية ومنه إلى الهوية!

وإذا ما انتقلنا إلى مرحلة التفكير وربطه بالثقافة، لكي نحصل على تفكير مثقف، فأعتقد أنها لا تتم إلى بما يسمى بالتفكير الناقد، وهو علم مستحدث يدرب الذهنية نفسها على التحليل والتفسير قبل إصدار أي أحكام مسبقة.

والتفكير عالم حر طليق في أفق رحبة اختص الله -سبحانه وتعالى- الإنسان به، فالكائن البشري يحيا بالتفكير ومن هنا جاءت مقولة (ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان)، ولذا كان التفكير قبل العيش منذ أن خلق الله الإنسان. وللتفكير عمليات معقدة لن نثقل كاهل القارئ بها من مراحل متعددة بداية من الإحساس والشعور والإدراك عبر الحواس الخمس مجتمعة أو منفردة ثم التفكير في آخر المطاف. ولكن ما يهمنا هنا هو كيف يمكننا أن نخلق إنسانا مفكرا؛ بمعنى إدماج الثقافة مع التفكير في عملة واحدة بطريقة التفكير الناقد الذي يستخدم التحليل والتفسير من أجل الوصول إلى فكر محض خاص به؛ حينها نطلق عليه سمة المفكر.

فالمفكر إنسان من نوع خاص يستخدم تفكيره في تحليل الثقافة وتوظيفها لخدمة الفكر نفسه حتى يصل الواحد منا إلى منطق خاص به، فلا يعتمد على ثقافة الحفظ والتلقي، فيصبح فقط إنسانا ناقلا. والإنسان الناقل أصبح مشكلة عصرنا، بحيث أن قراءة كتاب من الكتب أو دراسة من الدراسات أو ندوة من الندوات أو حتى مقولة من المقولات نعتبرها مسلمات؛ فلا مسلمات سوى كتاب الله وسنة رسوله؛ أما أي شيء آخر فيضع للنقد. مع الاعتبار أن النقد في مفهومه ليس "الانتقاد" كما يفهمه البعض، وإنما النقد هو التحليل والتفسير للوصول إلى نتيجة جديدة ومفهوم جديد.

إن مشكلتنا اليوم هي تفشي العقلية الناقلة الحافظة غير المستخدمة ملكة العقل (التفكير) في الوصول إلى قناعة خاصة؛ لا تسلم نفسها لمدونات ورسائل التواصل الاجتماعي أو نشرات أخبار أو حتى الكتب المطبوعة مهما بلغت قيمتها أو علا شأن كتابها.

سئل عباس العقاد عن معطلات التفكير فأجاب أن مجمل أسباب تعطيل التفكير يعود إلى ثلاثة أسباب: السبب الأول: الالتزام بالعادات والتقاليد والعرف الموروث عن الآباء والأجداد على غير هدى. السبب الثاني: الاقتداء الأعمى بأولئك الذين لا يفقهون النصوص خوفا من النقد. السبب الثالث: هو الخوف الشديد من أصحاب القوة والبطش.

ومن كل ما سبق نجد أن كل من يمشي على قدمين هو في ذاته يحمل ثقافة، إلا أننا لا نستطيع إطلاق عليه سمة المثقف، لأنه لا يعمل على اعتمال الثقافة المحمولة في رأسه وفي وجدانه مع عمليات التفكير، فلم تتفاعلا، وإنما ظل كل واحد منها يعمل كلا على حدة!

السبب الأخير الذي ذكره العقاد يعد من وجهة نظري أهم أسباب تعطيل الفكر. فالخوف من إبداء الرأي الخاص بصاحبه والخوف من النقد أو قل الانتقاد، والخوف أيضا من الفشل؛ يعطل عمل العقل، ومن وجهة نظري لا يوجد عمل أو فكر فاشل مهما كانت قيمته، وإنما قد تتعارض وجهات النظر، وبالتالي فالثقة في كل ما يصل له الفرد منا هي أولى درجات تبين الرؤية، لأن الخوف سياج من الجرانيت يحيط الفكر فلا يدعه يتحرك إلا في أفق النقل فقط، وهي ثقافة ضحلة إن لم تدخل فرن التفكير لتخرج لنا إناء من الصلصال شديد الصلابة. وكما قال عنترة:

فاعص مقالته ولا تحفل بها.. وأقدم إذا حق اللقاء الأول

واختر لنفسك منزلا تعلو به.. أو مت كريما تحت ظل القسطل

فمن خلال التعريف المعجمي للمثقف بأنه مفعول به، وبين تحوله من مفعول به إلى فاعل أي من مثقف إلى ثاقف (مهذِّب)، وجب إعمال الفكر (بالتحليل والتفسير)- وليس النقل والثقة والجزم بكل ما يقال ويسمع للوصول إلى شخصية الفاعل وليس المفعول به على الدوام.