لم يترك الكتّاب والمحللون زاوية سياسية أو فكرية يمكن من خلالها مناقشة التفجير الإرهابي الذي وقع في أبها قبل أيام إلا وأشبعوها فحصا وتمحيصا وتقليبا.
وكما يحصل في أي حدث من هذا النوع، يسارع المشتغلون بالسياسة لدراسة الروابط بالقوى السياسية ومصالح الدول وارتباطاتها وموازين القوى والتأثيرات والتبعات، ويسارع السيوسيولوجيون لربط الحدث بالظواهر الاجتماعية المختلفة، ويجدها البعض فرصة لتحميل المسؤولية لبنى وظواهر وأفكار اجتماعية يهتمون بها أساسا، فتجد من يقول إن السبب هو تقاليد معينة، وآخر يقول إن السبب هو غياب التقاليد ذاتها. كلٌّ يجد في حدث كهذا ما يناسب هواه واهتمامه، ويجد فيه فرصة لإثبات نظرته ونظريته. الأمهات يضعن أيديهن على قلوبهن ويتحسرن على أمهات الشهداء، يشعرن بثكلهن، ويتشاركن معهن الفجيعة، المصلون في كل مساجد العالم يتحسسون الخطر لبضع ثوان ثم يزدادون تشبثا بأداء فرائضهم في مكانها، الأعداء يشمتون والأصدقاء يتعاطفون، والغرباء يحاولون الفهم.
هذا التفجير الإرهابي بالذات ترافق مع جملة من المتناقضات والتباينات، لعل أكثرها لفتا للانتباه نقطتان، وهما: مواقف بعض الدول والجماعات التي حمّلت المملكة العربية السعودية جزءا من المسؤولية عن هذا التفجير، والمفارقة اللغوية التي ترافقت مع تفاصيل هذا العمل الإرهابي.
فأما الدول والجماعات وبعض وسائل الإعلام التي قالت بمسؤولية المملكة فيما يجري على أراضيها، ويبرر هؤلاء اتهامهم هذا بأن المملكة دعمت وتدعم جماعة ما في بعض الدول في المنطقة، وهم يقصدون سورية والعراق واليمن، وأن الإرهابيين إنما خرجوا من رحم هذه الجماعات، فهذا الكلام يشبه أن تقول عن جامعة عريقة إنها مسؤولة عن كثير من الدمار في العالم، لأنها رعت وعلمت وخرجت طلاب علم، فخرج من بينهم من اخترع سلاحا فتاكا تسبب بقتل أو بتدمير، أو نشبه هذا الزعم بأن ترعى حكومة ما فلاحيها فتعطي لهم أكياس السماد الآزوتي، فيستخدم أحد الفلاحين هذا السماد في صنع قنبلة يفجرها في سوق مكتظ أو في مدرسة، فيخرج علينا أحد ليقول إن هذه الحكومة أسست لصنع المتفجرات!
وأما المفارقة اللغوية فهي لبّ الموضوع، وهي النقطة الجدية بالتوقف والاهتمام، لأنها ليست لغوية فقط، بل هي مؤشر لحجم التلاعب والتضليل الذي يمكن للبعض أن يصل إليه، وهي أيضا مناسبة لإعادة النظر بكثير من المصطلحات والتعاريف والاستخدامات اللغوية.
فإذا أردنا أن نبسط القصة، ونحتفظ بها لنرويها بعد أجيال، ولو سأل تلميذ مدرسة بعد قرنين من الآن أستاذه عمّا جرى في مسجد قوات الطوارئ في أبها، فلن يستطيع سوى أن يرويها هكذا: مجموعة من المسلمين يؤدون صلاتهم الإسلامية في دار عبادة إسلامية، وفيما هم خاشعون لربهم، وقلوبهم تقول (الله أكبر)، دخل "مسلم" إلى المسجد ذاته، وصرخ (الله أكبر) ثم فجر نفسه، معتقدا بأنه ينصر الإسلام وأنه ذاهب إلى الجنة لأنه قتل مسلمين يؤدون صلاتهم!
في اليوم التالي سيصدر بيان يعلن المسؤولية عن التفجير (وبالتالي التخطيط والتحضير والتنفيذ) لتنظيم يسمي نفسه (الدولة الإسلامية في العراق والشام)!
قد يخطر لتلميذ في ذاك الوقت أن يسأل أستاذه: كيف ذلك؟ أليس على الدولة الإسلامية أن تحارب الكفار؟ أتخيل وقتها أن يبتسم الأستاذ ويقول لطلابه: وهذا هو موضوع درسنا اليوم وعنوانه (الجنون المنفلت).
فحقيقة لا أرى تفسيرا لهذه المأساة سوى أنها ضرب من ضروب الجنون، وامتداد لحرائق الجنون التي تعصف بمنطقتنا وأمتنا، من ليبيا في الغرب إلى سورية إلى العراق إلى المملكة، وقبلها بأسابيع في الكويت وفي قلب أوروبا.
فحين يغيب العقل يصبح أي شيء متوقعا، ويصبح لأي شيء اسم أي شيء آخر، فدون عقل يمكنك أن تسمي الجريمة جهادا، وأن تقتل المسلمين الخاشعين ثم تسمي ما تفعل نصرة للإسلام!
يمكنك أن تخلق تنظيما مجرما في قلب الأمة الإسلامية، جلّ عمله واهتمامه قتل المسلمين وتدمير مقدرات الدول الإسلامية، ثم تسميه بالدولة الإسلامية!
هل قلت مفارقة؟ الأمر يتجاوز المفارقة بكثير، إنه جنون جماعي منفلت، يشمل الأفراد والجماعات، يشمل السياسيين ووسائل الإعلام، ويشمل المفردات أيضا.
فلو لم تكن اللغة مجنونة لما تقبل أحد التفكير -مجرد التفكير- بجرائم من هذا النوع، ولما كانت البشرية معرضة لتلقي كل هذا الجنون.