نظمت إحدى القنوات الفضائية حملة بعنوان "شبهات الغلاة"، وذلك بهدف الرد على شبهات الغلاة والمتطرفين ردا علميا شرعيا فكريا محددا؛ بسبب الفهم السيئ لكتاب الله -عزّ وجل- وسنة نبيه، صلى الله عليه وسلم، حيث تستضيف القناة مجموعة من الدعاة ورجال الدين.
وحسب ما تزعمه القناة فإن هذه الحملة تستهدف فئتين من الناس، الأولى فئة الشباب والثانية هي أمة الإسلام عامة، ولم يحدد القائمون على الحملة ما المقصود بالغلاة؟ فهل هم المتشددون والمتعصبون دينيا أم المقصود الإرهابيون أم الاثنان معا؟
ومهما يكن المقصود بمعنى "الغلاة"، فمن خلال متابعتي لحلقتين من البرنامج، فالحملة لم تأت بجديد، وعلى قول المثل "فسّر الماء بعد الجهد بالماء"! ولعلي لا أبالغ إن قلت إن الهدف من هذه الحملة الإعلامية، ليس الرد على الفكر المتطرف أو الإرهابي كما هو معلن بقدر ما هو الدفاع عن المكانة الاجتماعية للمؤسسات الدينية خاصة مع العمليات الإرهابية التي يقوم بها التنظيم المجرم داعش.
لقد اتضح لي جليا قصور أدوات المعرفة الدينية السائدة عند بعض الدعاة ورجال الدين، في تقصي ومعالجة المشكلات الفكرية المتزايدة للجيل الجديد من الشباب، خاصة في مجال العقائد وأصول الدين، وقصورها أيضا في الرد على الشبهات والتحديات الفكرية المعاصرة، وبالتالي فإن الحلول المطروحة في هذا المجال غير مجدية، وربما أسهمت في زيادة انتشار التطرف.
فعلى سبيل المثال، كان موضوع الحلقتين السابقتين في تلك الحملة عن "التكفير"، فكانت النتيجة أن تكفير الآخر يعد من الأمور الخطيرة، وليس بالأمر السهل فهناك شروط وضوابط شرعية، والحكم بذلك لا يكون إلا عن طريق الراسخين في العلم الشرعي.. وهذا الكلام في الحقيقة لا يحظى بمبررات منطقية، وذلك لسبب بسيط وهو أن الجماعات المتطرفة والإرهابية تنظر إلى شيوخها ومنظريها بأنهم من العلماء الراسخين في العلم، وعند تكفيرهم للآخر فهم ينطلقون في ذلك من باب ما كفره الله في كتابه وسنة نبيه، عليه أفضل الصلاة والسلام.
والأدهى من ذلك، أن أحد ضيوف البرنامج ذكر أن من أهم أسباب ما تمر به الأمة الإسلامية من فتن ومصائب وابتلاء هو ابتعادها عن الدين وعن الشريعة الإسلامية، وذلك استنادا إلى قول الله تعالى: (وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ..) سورة الشورى الآية 30، والمعنى من ظاهر الآية صحيح، ولكن بما يتفق مع رأي فئة معينة على حساب فئة أخرى، أي بمعنى الابتعاد عن تفسير معين لما يقوله رجل الدين عن النص الديني نفسه، وهذا المنطلق للأسف ينطلق منه أيضا الغلاة والمتطرفون عندما يصفون المجتمع بالابتعاد عن الدين، وبالتالي فلا بد من إصلاح المجتمع بالقتال والجهاد في سبيل الله حتى يفيئوا إلى أمر الله تعالى!
وعلى هذا الأساس، فإني أتساءل: لماذا لا يطرح الدعاة ورجال الدين مسألة "التكفير" على أنها من الأمور الإلهية التي لا دخل للإنسان في إطلاقها على الآخر حتى ولو كان من الراسخين في العلم، وذلك استنادا إلى قوله تعالى: (لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) سورة البقرة الآية 256، فالفرد يتحرك بنفسه في خط التقوى والإيمان من موقع الاختيار الحر، وهذا ما صرحت به الآية الكريمة.
أما فيما يتعلق بشبهة تكفير الحكومات، فقد وجه مقدم البرنامج سؤالا إلى أحد الضيوف، وهو استناد الغلاة في التكفير إلى قوله تعالى: (وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ) سورة المائدة الآية 44، فذكر الداعية الضيف بأنه ليس من الضروري وجود نصوص شرعية لكل واقعة، ومن ذلك على سبيل المثال: الأنظمة المرورية والتجارية وأمثال ذلك، فهي تعتبر من صلاحيات أولي الأمر ما لم تتعارض مع الشريعة؛ وذلك لقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنكُمْ) سورة النساء الآية 59، أما فيما يتعارض مع الشريعة في رأي الداعية فهو مرفوض مثل ترك رجم الزاني المحصن، وترك قطع يد السارق وما إلى ذلك!
وعلى الرغم من أن تلك الرؤية السابقة هي أقرب إلى الواقع وإلى أجواء النصوص الدينية، إلا أنها تواجه بعض الإشكالات، على المستوى النظري والتطبيقي، منها: أن المشكلة التي تواجه عملية التشريع في الإسلام اليوم لا تكمن في عدم وجود نصوص للوقائع المستجدة، بل في وجود أحكام فقهية لا تتلاءم مع الواقع الجديد، وما زال رجال الدين يتمسكون بها ويعتبرونها من ثوابت الشريعة التي لا يمكن أن تتغير في نظرهم!
وبالتالي، فإن أية مطالبة بتجديد الخطاب الديني، كمراجعة إطلاق أحكام التكفير والردة على المخالفين، فإنها تعني في نظرهم إباحة الكفر والإلحاد! ومراجعة حد الرجم فإنها تعني في نظرهم إباحة الزنا والفجور! وكذلك من مظاهر "الكفر الأكبر" المخرج من الملة: إحلال القانون الوضعي بديلا عن أحكام الشريعة، وإنشاء محاكم غير شرعية، والرجوع إلى القوانين الدولية والإعجاب بها أو مزج الشريعة بمثل هذه القوانين..
ولهذا نجد أن العنف والقتل عند الإرهابيين عبارة عن وسيلة تعبدية تستمد شرعيتها لديهم من الغاية النبيلة التي يتصورونها، وهي إقامة حكم الله على الأرض عن طريق الجهاد في سبيله، فقد لقّنوا وحفظوا أن المجتمعات الإسلامية لا تحكم بما أنزل الله في كتابه وسنة نبيه محمد -عليه الصلاة والسلام-، وهي مجتمعات كافرة وظالمة وفاسقة! فهذه هي شبهات الغلاة، فكيف يمكن الرد عليها؟