تحدث جون أوين، وهو أستاذ العلوم السياسية في جامعة فيرجينيا، بشيء من التفصيل عن الإسلاموية، قائلا: ما يقرب من قرن من الزمان، وبعد أن ظهر لأول مرة في مصر، أعاد الإسلام السياسي تعريف العالم الإسلامي. هذه الأيديولوجية الإسلامية المتشددة تدعي بأن المجتمع الإسلامي العالمي القوي الذي تجاوز المليار مسلم لن يكون حرا وعظيما إلا إذا طبق شريعة الله بحذافيرها، بكلمات أخرى، أي إذا عاش المسلمون طبقا لقوانين الشريعة الإسلامية كما كان الوضع في أغلب فترات التاريخ الإسلامي. لطالما واجه الإسلاميون تعنت المسلمين وغير المسلمين الذين يرفضون تطبيق الشريعة. دعمت هذه المواجهات، التي كانت في بعض الأحيان معتدلة وفي أحيان أخرى عنيفة، ثورة 23 يوليو التي قادها ضباط جيش مصريون ضد الحكم الملكي في عام 1952 وعرفت في البداية باسم "الحركة المباركة"، والثورة الإسلامية عام 1979 التي حولت إيران من نظام ملكي تحت حكم الشاه محمد رضا بهلوي إلى جمهورية إسلامية يهيمن عليها الخميني، وهجمات القاعدة في نيويورك عام 2001، ثم الربيع العربي عام 2011 بقيادة شباب يتوق إلى العدل والمساواة ورغد العيش، وصعود الجماعات الإسلامية الأصولية مثل "الدولة الإسلامية" المعروفة باسم (ISIS) أو "داعش".

حاول مجموعة من الباحثين الغربيين وصناع القرار فهم طبيعة هذا الصراع، لكن حتى الآن لم تحقق جهودهم الأهداف المرجوة منها. على الرغم من أن خبراء في الفقه الإسلامي والعقائد والتاريخ أنتجوا دراسات غنية عن الإسلاموية، إلا أنهم يميلون إلى معالجتها كما لو كانت فريدة من نوعها، وينسون أن الإسلاموية عبارة عن أيديولوجية ومشروع يسعى إلى تنظيم الحياة العامة ينبغي تحليلها جنبا إلى جنب مع الأيديولوجيات الأخرى. في كل جزء من العالم سنجد العديد من المذهبيين والمذاهب، ولفهم الشرق الأوسط المعاصر بشكل أوضح من المفيد أن نعود إلى الوراء، للنظر في الصراع الأيديولوجي في تاريخ الغرب نفسه.

تعاني أجزاء من العالم الإسلامي اليوم من تشابه مع شمال غرب أوروبا منذ 450 عاما، خلال فترة الحروب الدينية. وقتئذ، كما هو الحال الآن في الشرق، كانت هناك موجة من التمرد الديني الذي اجتاح العديد من دول أوروبا وهدد استقرارها الأمني. على سبيل المثال: في سنة 1560 فقط، واجهت كل من فرنسا وهولندا وأسكتلندا ثورات قادها أتباع فرع جديد من المذهب البروتستانتي يسمى "الكال?ينية" وهي: مذهب مسيحي بروتستانتي يعزى تأسيسه لرجل الدين اللاهوتي الفرنسي جون كالفن، وكان هذا الأخير قد وضع بين عامي 1536 و1559 مؤلفه "مبادئ الإيمان المسيحي"، الذي يعتبره الكثيرون من أهم ما كتب عن الحركة البروتستانتية. كان محور هذا الصراع يدور حول المسيحية التي يجب أن تمثل الدولة. كما تنافس العقائديين والأيديولوجيين على النفوذ، وقمعوا المعارضة بوحشية. اندلعت المجازر الدينية على نحو دوري، وتدخلت القوى الخارجية نيابة عن الأحزاب المتنافسة. أدت الاضطرابات في نهاية المطاف إلى مأساة "حرب الثلاثين عاما"، وهي عبارة عن سلسلة من النزاعات المسلحة التي مزقت أوروبا خلال الفترة 1618-1648. وكان من نتائج هذه الحرب الأهلية الأوروبية: قتل الملايين من شعوب أوروبا، انتشار المجاعات والأوبئة، وهجرة البعض حتى فقدت العديد من المناطق ما يصل إلى أكثر من نصف سكانها. تم توقيع معاهدات السلام في ألمانيا، البلد الذي كان في حالة خراب تام ويحتاج إلى عقود ليتعافى ويستعيد قوته. في المقابل، أصيبت فرنسا وإسبانيا والسويد بفقر مالي حاد، وتغيرت الجغرافية السياسية الأوروبية بعمق: فقدت الدانمارك مكانتها كقوة عظمى بشكل دائم، سيطرت السويد على بحر البلطيق وضمنت تفوقها لاحقا في شمال أوروبا، استطاعت هولندا وسويسرا كسب حقهما في الاستقلال، بينما كانت فرنسا الرابح الأكبر حيث فرضت هيمنتها في ظل حكم لويس الرابع عشر. وعندما انتهت هذه الحرب الثلاثينية، اندلعت معركتان أيديولوجيتان أخريان: بين المؤيدين للنظام الملكي أو كما تسمى "الملكانية" وأتباع النظام الدستوري في القرن الثامن عشر، وبين الليبرالية والشيوعية في القرن العشرين.

إن هذه الفترات الثلاث الطويلة من الصراع الأيديولوجي، التي قسمت الدول الغربية حول أفضل طريقة لحكم المجتمع، تقدم دروسا بالغة الأهمية لحروب الوقت الحاضر في منطقة الشرق الأوسط التي لا تعد الأولى في خطورتها. كما هو الحال لدى الأيديولوجيات المسيطرة في الماضي، شكل الإسلام السياسي قوة صراع جديدة في المنطقة. في كثير من الأحيان، يحتدم الصراع حتى تتطور المذاهب المتنافسة أو تتلاقى، وغالبا لا يحدث هذا إلا بعد تورط قوى خارجية في النزاع وإعادة تعريف النظام الإقليمي. لن تسفر دراسة تاريخ أوروبا عن حل سحري واضح لحل تحديات الشرق، لكنها تخبرنا على الأقل أن مشاكل المنطقة ليست فريدة من نوعها، وأن الأنظمة في البلدان العربية التي أصبحت مائدة يومية للقتل، تستطيع اتخاذ خطوات حاسمة للحد من العنف وخلق ظروف أكثر ملاءمة لازدهار الإنسان ورفاهيته.

قد ينتهي الوضع المأساوي للحروب الدينية بإحدى ثلاثة سيناريوهات: نصر حازم من جانب واحد، أو سمو الأطراف المتحاربة فوق الصراع، أو ظهور نظام هجين يجمع بين المذاهب المتناحرة بطريقة شبه مستحيلة. يبدو السيناريو الأول في الوقت الحالي بعيد الاحتمال، فبالنظر إلى الحركات الإسلاموية، نرى أنها غير متجانسة ولكل منها أهداف واتجاه مغاير، ومن ثم، لن يستقر انتصار التيار الإسلامي سواء كان سنيا أو شيعيا، معتدلا أو متطرفا. لكن السيناريوهين الآخرين يمكن تصورهما.