كانت وزارة الثقافة والإرشاد الإيرانية، خلال فترة المفاوضات وبعد التوقيع على الاتفاق النووي، تطالب الصحفيين والإعلاميين بعدم انتقاد الاتفاق والتركيز على إيجابيته، وكيل المديح للفريق المفاوض وعدم نقل أو التطرق لأي انتقادات للاتفاق. لقد تم فضح ذلك بعد تسريب وثيقة تم تداولها بشكل واسع في وسائل التواصل الاجتماعي في إيران، صادرة عن هذه الوزارة وموجهة إلى وسائل الإعلام المحلية. من جانب آخر، ركز خطباء الجمعة (مرتبطون بولي الفقيه مباشرة) على ما وصفوه بـ"الانتصار النووي" وحذّروا من الجدل بين التيارات الحزبية والسياسية حول الاتفاق وعواقب ذلك، إلا أن النظرية شيء والواقع شيء آخر تماما.
فبعد موجة البهجة والفرح التي ارتسمت على ردود أفعال النظام الإيراني، بكافة أطيافه ومكوناته السياسية وإن كان بدرجات متفاوتة، برز إلى السطح الخلاف بين التيارات السياسية من أصوليين ومعتدلين داخل الدائرة الضيقة التي تحكم البلاد. بدأت التساؤلات والاستفهامات تنطلق من تحت قبة مجلس الشورى (البرلمان) الإيراني بعد أن قدمت وزارة الخارجية ترجمة -باللغة الفارسية- للاتفاق النووي فتم اكتشاف الكثير من الأخطاء والتجاوزات في الترجمة، فقدمت الخارجية ترجمة ثانية فثالثة وجميعها لا تتطابق مع النص الإنجليزي وتصريحات الإدارة الأميركية والاتحاد الأوروبي، ولا تزال المشكلة قائمة.
يقول كبير المفاوضين الإيرانيين عباس عراقجي: يجب أن يدرس البرلمان الإيراني الاتفاق النووي، ومن ثم تعلن إيران رأيها النهائي قبل الجانب الأميركي، حتى إن حدثت أي عرقلة للاتفاق من قبل الكونغرس الأميركي فحينها يقع اللوم كاملاً على الجانب الأميركي دون غيره. كما قال عراقجي: إننا لا نمانع من زيارة مفتشي الوكالة الدولية للطاقة الذرية لموقع "نطنز" النووي وستتم الموافقة خلال 24 ساعة، حتى لو أرادوا النوم هناك لأنه ليس لدينا ما نخفيه!. عراقجي قال ذلك في جلسة خاصة مع مجلس هيئة الإذاعة والتلفزيون الإيرانية، وتم نشرها على موقع الهيئة مما أثار غضب عراقجي زاعماً أنه تم تحريف كلامه، علاوة على أن ما دار في الاجتماع لم يكن قابلاً للنشر، مما قاد الموقع إلى حذف الخبر سريعا؛ معللا ذلك بأن ما نشر كان فهما خاطئا لبعض ما طرحه عراقجي، إلا أن بعض الصحف الإيرانية مثل صحيفة اعتماد قد نقلته قبل الحذف.
ليدرك القارئ الكريم أن هيئة الإذاعة والتلفزيون الإيرانية لا تخضع لرئيس الجمهورية بل مرتبطة مباشرة بالمرشد الأعلى، أي أنها على مستوى مواز تماما لرئيس الجمهورية من حيث الهيكلة الإدارية في النظام الإيراني، وهذه الهيئة محسوبة بطبيعة الحال على التيار الأصولي، وعليه فإن الأقرب للواقع أن نشر تفاصيل ما دار في تلك الجلسة الخاصة ليس خطأ ارتكبه أحد المحررين كما جاء التبرير وليس تحريفا لحديث عراقجي، بل ينبغي قراءته في إطار الصراعات الحزبية بين الأصوليين وخصومهم، والإيحاء إلى بعض التنازلات التي قدمها فريق المفاوضات المحسوب على التيار المعتدل. فبعد سبعة أشهر من الآن هناك انتخابات مجلس الشورى الذي يسيطر عليه حاليا التيار الأصولي، ويخشى أن يستغل المعتدلون "إنجاز" الاتفاق النووي للتأثير على الناخبين وبالتالي انعكاس ذلك على نتائج الانتخابات، ومن ثم إمكانية سيطرة هذا التيار على البرلمان إلى جانب الحكومة، وبالتالي السيطرة على السلطتين التشريعية والتنفيذية.
ولتصل الفكرة بشكل أكثر وضوحا إلى القارئ الكريم، نشير إلى أنه خلال المفاوضات النووية كانت الحكومة الإيرانية تبالغ في وعودها للشارع الإيراني بتحسن الأوضاع المعيشية والانتعاش الاقتصادي وانخفاض معدلات التضخم والبطالة ونحو ذلك، ولكن بعد أن تم التوصل إلى الاتفاق أدركت حكومة روحاني أنها لن تحقق أيا من ذلك قبل الانتخابات البرلمانية، فبدأت تتحدث عن إمكانية تحقق بعض تلك الوعود بعد عام أو أقل من ذلك بقليل، وهي بالتالي تحاول امتصاص أي غضب شعبي محتمل يصب في نهاية المطاف في صالح التيار الأصولي الذي سيلعب على ذلك في المعركة الانتخابية. فعلى سبيل المثال، نجد أن المتحدث باسم الحكومة الإيرانية محمد باقر نوبخت يقول إن الحكومة لن تستفيد من الأموال التي سيفرج عنها، ويقول وزير الاقتصاد إن الأموال المجمدة قد تم استخدامها ولم تعد موجودة فعليا، وبالتالي لن تدخل في الميزانية العامة للدولة. من هنا، نجد أن الحكومة الإيرانية، ومن خلال محاولة التبرير بأن السرعة في القبول بالاتفاق سوف تحرج الجانب الأميركي أمام المجتمع الدولي وأعضاء مجموعة 5+1 الآخرين، تستخدم أسلوب "الإغراء"، إن صحت العبارة، في مواجهة التيار الأصولي حتى لا يقوم هذا التيار بهدم كل ما بناه روحاني وحكومته خلال العامين الماضيين والتوصل إلى هذا الاتفاق الذي كان بمثابة الورقة التي راهن عليها الرئيس الإيراني منذ انتخابه في منتصف عام 2013.
في ظل كل هذه الصراعات، الحقيقية منها والمصطنعة، ينظر المواطن الإيراني إلى الاتفاق النووي كنافذة إلى العالم يحظى من خلالها بحياة أفضل، بعيدا عن مبرر العقوبات وسياسة العداء التي ينتهجها النظام الإيراني تجاه معظم دول العالم ودول الجوار تحديدا، كما يطمح إلى أن تكون بلاده دولة طبيعية لا يلتصق اسمها بالإرهاب والتدخلات في شؤون الآخرين ومحور الشر والشعارات العدائية، ولكن حسابات الساسة في طهران مختلفة تماما، وقد لا تسمح بتحقق أي من هذه الرغبات وسيجد النظام أعذارا ومبررات جديدة ليبقى الحال على ما هو عليه.