قبل بضع سنوات وفي يوم باريسي ممطر، اخترت دخول إحدى صالات السينما لمشاهدة فيلم فرنسي استأثر باهتمام الجمهور والنقاد في ذلك الوقت إلى درجة أنه شجع البرلمان بعد أن عرض تحت قبته، على إعادة النظر في قانون كان يعاقب بالسجن أو الغرامة على أي شخص يتستر على مهاجر غير شرعي داخل الأراضي الفرنسية، حتى لو كانت دوافعه إنسانية.
قصة الفيلم باختصار تدور حول شاب كردي عراقي يدعى "بلال" تمكن من الوصول إلى مدينة "كاليه" الفرنسية التي تعد أقرب نقطة للعبور إلى الأراضي البريطانية، ويتجمع فيها سنويا المئات من الراغبين بالوصول إلى هناك، هذا الشاب طلب من مدرب سباحة محلي أن يعطيه دروسا في السباحة؛ أملا في أن يتمكن من عبور المسافة الفاصلة بين النقطتين الفرنسية والبريطانية والبالغة نحو خمسة وثلاثين كيلومترا بحرا، غير مكترث ببرودة مياه "المانش"، ولا بالمخاطر التي قد تصادفه أثناء قيامه بمغامرته غير المحسوبة.
لم أصدق حينها أن سيناريوهات الأفلام يمكن أن تتحقق على أرض الواقع، وبشكل أكثر قسوة، إلا وأنا أقرأ الأسبوع الماضي قصة المهاجر السوداني الذي تمكن وبأعجوبة من عبور النفق الفاصل بين فرنسا وبريطانيا تحت مياه البحر مشيا على قدميه، متفاديا كل كاميرات المراقبة، فضلا عن القطارات التي تسير بسرعة 160 كلم في الساعة، وأسلاك الكهرباء الشائكة التي يعج بها المكان، وعلى الرغم من ذلك لم تكن نهايته أفضل من نهاية صديقنا في الفيلم؛ لأن الشرطة كانت له بالمرصاد عند مخرج النفق.
جدل حاد دار بين الحكومتين الفرنسية والبريطانية مؤخرا، بسبب المحاولات المستميتة لمئات اللاجئين العبور إلى المملكة المتحدة عبر نفق "يوروتانل"، ما أسفر عن وفاة العديد منهم، لكن يبدو أن كل تلك الأموال التي رصدت من أجل تعزيز الأمن في المنطقة لن تعيق هؤلاء الأشخاص عن إعادة المحاولة مرارا وتكرارا، فهم -باختصار- لا يملكون ما يخسرونه.
لم أفهم المعاناة الحقيقية للمهاجرين غير الشرعيين إلا عندما توجهت لزيارة أحد مخيمات اللاجئين السوريين؛ لأقف بنفسي على الأوضاع المأساوية التي يعيشها هؤلاء، ولا أريد هنا أن أبخس حق المنظمات الإنسانية والحكومات التي قدمت وتقدم ما بوسعها لهذه الفئة، لكن المؤشرات السياسية والميدانية تشير وبوضوح إلى أن الإقامة في تلك المخيمات قد تطول لسنوات، وهو ما لا يمكن قبوله بالنسبة لأي شخص ما زال على الأقل يمتلك حق الحلم بحياة أفضل، ولم يعد أمامه خيار سوى ركوب الخطر هو وعائلته، فإن لم يصل إلى بر الأمان، فلن يخسر حياة البؤس التي كان يعيشها داخل خيمة أو بيت من الصفيح.
هل تعلم -عزيزي القارئ- أن الكثير من المؤتمرات التي عقدت لصالح جمع التبرعات لم تنجح حتى الآن في جمع سوى ثلث ما وعدت به الجهات المانحة؟ هل تعلم بأن نصف تلك الأموال تصرف كمرتبات ومبالغ إدارية للمنظمات الدولية التي تقوم على رعاية شؤون اللاجئين، ولا يصل إليهم في النهاية سوى الفتات الذي يسد رمقهم بالكاد؟ كيف إذن يمكن أن نحرمهم حق التفكير في ركوب ناقلة شحن مهترئة أو قارب مطاطي تتلاطمه الأمواج في عرض البحر، وغالبا ما يكون سببا في وأد أحلامهم وأحلام عائلاتهم وهي في مهدها؟
أنا هنا لا أشجع قطعا على سلوك هذا الطريق الأشبه بالانتحار، ولكن ما عساي أقول لغريق يتمسك بقشة، وما عساي أفعل وأنا لا أملك سبيلا لتفريج كربته سوى ورقة وقلم، سيجف حبره حتما قبل أن تجف دموع كل لاجئ أو نازح في أرض الشتات؟! لكن دموعهم تلك ستبقى عارا على جبين الإنسانية إلى يوم ترفع فيه الأقلام وتطوى الصحف.