هنا مدخل الحكاية: منذ العام الأول لولادته، وحتى اليوم، عاش معنا ابني الأكبر، مازن، نسخة من الصنف الإنساني الهادئ الخجول الذي يكاد يمر معه الشهر مكتملاً دون أن يتداخل بجملة واحدة في حوارات أسرتي الصغيرة الصاخبة. ذات زمن بعيد، فتحت معه قصص مدارسه المختلفة، ويومها كان في الأولى الثانوية. أتذكر ذلك اليوم بالضبط. كنا عائدين وحدنا من مسقط رأسي بسراة عبيدة إلى أبها. كنا بالضبط عند إشارة محطة "بن جارالله" الشهيرة لمن يعرف الطريق عندما انهار مازن في نوبة بكاء وهو يقول بحرقة: كنت في الرابعة الابتدائية عندما كان أستاذ بالمدرسة يحذرني كل يوم بشدة من "الاحتكاك" بك وكنت بداخل نفسي أتألم لأنني لم أفهم طبيعة "الاحتكاك" الذي يتحدث عنه معلمي. هل يقصد احتكاك الأجساد المادي الحسي وإذا كان هذا قصده فكيف أفعل هذا يوم كنا نعيش في شقة ضيقة صغيرة. أبي: كنت أتألم وأبكي وحدي، عندما يأتيني نفس "المدرس" كل صباح ليأخذ "رياليك" من حقيبتي الصغيرة ثم يضع في جيبي خمسة ريالات بدلا منها للفسحة المدرسية. كنت أعيش حالة مزدوجة بين مساءات والدي الذي أراه صورة مثالية للأب، وبين صباحات مدرستي التي تعج بكل تلك القصص المؤلمة البشعة. قبل عام بالتقريب أعدت على "أذني" مازن ذات حوارنا القديم وذكريات ليلة بكائنا معا أمام ما يمكن أن أسميه: ليلة الاكتشاف المتأخرة أمام محطة بن جارالله.

يدخل "مازن"، ولله الحمد والشكر، بعد أسبوع سنته الأخيرة في كلية الطب، وهو ما كان وللحق، مشروع تطرف ذات زمن لكسب معركة من قلب وداخل بيت أبيه. كان الخطأ الفادح في حياتي أنني لم أسأله لست سنوات كاملة عن قصصه المدرسية حتى كان الفضل، للصدفة، بعد الله عز وجل، أمام محطة وقود ولمشوار قصير ما بين القرية والمدينة. وفي الأيام الخمسة الأخيرة أتذكر قصتي الشخصية الخاصة لأقارنها مع قصة "أبو يوسف"، الغالي الذي لا أعرفه أبداً "سليمان عبدالله السليمان". الفرق ما بيني وما بينه أنني استيقظت على مشروع هائل لاختطاف ابني في مشوار قصير أمام محطة وقود. كان يمكن لـ"مازن" أن يكون الحزام الناسف البديل لـ"يوسف" لولا أنني قلبت الطاولة في صباح اليوم التالي لأنقل "مازن" من المدرسة والبيئة ومن الحاضنة ومن كل شيء له علاقة بقصة الأولى الثانوية. أتعرفون في النهاية لماذا أشعر بكل هذا الألم: أشعر به لأن "مازن" يشبه "يوسف" كلما رأيت صورة الأخير في كل شيء: شكل وجهه.. طول لحيته.. ابتسامته.. عينيه الحزينتين، صمت شفتيه في كل صورة نشرت له. انتهت المساحة.