اعتدت منذ الحملة الانتخابية التي ترشح فيها جورج بوش الابن، في دورته الرئاسية الأولى تقديم قراءة استشرافية لتوجهات الناخب الأميركي، واستتبع ذلك بقراءات أخرى بعد انعقاد مؤتمري الحزبين الجمهوري والديموقراطي، وتسمية كل منهما لمرشحه للانتخابات الرئاسية.
الآن وقد عبر عدد من الشخصيات السياسية، من الحزبين الرئيسيين، عن نيتهم الترشح لخوض معركة الانتخابات الرئاسية لعام 2016، فقد آن لنا تأشير أهم ملامح الدورة المقبلة، واستشراف من هم الأشخاص الأكثر حظوظا في الوصول إلى البيت الأبيض.
اعتمدنا في قراءتنا السابقة على الأوضاع الاقتصادية الأميركية كبوصلة نستنبط من خلالها البرنامج الرئاسي الذي يتواءم مع حاجة الناخب الأميركي ورغباته في تلبية احتياجاته الأساسية، من سكن وصحة وتعليم، لقد كان الوضع الاقتصادي المفتاح لمعرفة توجهات الشعب الأميركي تجاه مواصفات الرئيس المنتخب.
لقد أكدت قراءتنا لسيرورة هذه الانتخابات، خلال خمسة العقود المنصرمة، أن هناك صلة بين التضخم والكساد الاقتصادي في تحديد من سيصل إلى المكتب البيضاوي.
فكلما حدث تضخم كبير في الاقتصاد المحلي، وتسبب الغلاء الفاحش في معاناة الأميركيين، أمست الحاجة ملحة لوصول الجمهوريين إلى سدة الرئاسة، وكلما تضاعف الكساد الاقتصادي، وتسبب في إنهاء دور الطبقة المتوسطة، وتراجع الاقتصاد الأميركي، والمساس بالحاجات الأساسية للمواطن الأميركي، غدت الأبواب مفتوحة للديموقراطيين للوصول إلى سدة الرئاسة.
حالة الانتقال من الكساد إلى التضخم، أو من التضخم إلى الكساد، لا يمكن ربطها بفترة زمنية. فأحيانا تستغرق دورة رئاسية واحدة، وأحيانا تستغرق دورتين أو ثلاثا، يحكمها في ذلك ظروف عدة، قد تتعدى حدود التفاعلات الاقتصادية الداخلية إلى ما هو أعم من ذلك بكثير.
فعلى سبيل المثال، تسلم الرئيس ريتشارد نيكسون عام 1969، بعد انتهاء فترة الرئيس ليندون جونسون، وفشل الديموقراطيون في اكتساب ثقة الناخبين لدورة رئاسية جديدة. واستمرت حقبة الجمهوريين لدورتين رئاسيتين، سقط خلالها نيكسون بفعل فضيحة واتر جيت عام 1974. تسلم الرئاسة بعده الجمهوري جيرالد فورد الذي يعد من الرؤساء الأميركيين القلائل الذين وصلوا إلى سدة الحكم من غير انتخاب.
أدت الحرب الفيتنامية إلى خسائر اقتصادية كبيرة للأميركيين، رافقها سقوط أكثر من 50 ألف قتيل عدا مئات الآلاف من الجرحى والخسائر في المعدات، وبلغ الكساد مستوى عاليا في السنوات الأخيرة للرئيس فورد، وكان ذلك من أسباب انتخاب الديموقراطي جيمي كارتر لسدة الرئاسة.
عانى كارتر منذ أيامه الأولى من نتائج الطفرة الكبيرة في أسعار النفط، حيث تسبب فيها تضامن الدول العربية المصدرة للنفط مع مصر وسورية في حرب أكتوبر عام 1973 التي انعكست نتائجها بشكل مباشر على الاقتصاد العالمي. وجاء احتجاز الرهائن الأميركيين من قبل الحرس الثوري الإيراني في الأيام الأولى لانتصار الثورة؛ ليشكل ضربة قاصمة لحظوظه في الحملة الانتخابية، للدورة الرئاسية الثانية.
وصل الجمهوري رونالد ريجان إلى سدة الرئاسة في ظل تضخم اقتصادي كبير، فكان أن اتخذ قرارات قاسية؛ للحد من التضخم، ولكن الدورة الاقتصادية للكساد أخذت ثلاث دورات رئاسية، اثنتان منهما للرئيس ريجان والثالثة لجورج بوش الأب، وقد تسبب فشل السياسات الاقتصادية في سقوط الأخير، ولم يشفع له أنه احتل بنما، وبأنه انتصر في الحرب على العراق، وأنه الرئيس الذي دشن تربع الولايات المتحدة كقطب أوحد في العالم.
عاود الديموقراطيون تسلم سدة الرئاسة، برئاسة بل كلينتون الذي جاء ببرنامج اقتصادي متين، مكّن الأميركيين من الخروج بسرعة من الأزمة الاقتصادية، وتسلم الحكم لدورتين رئاسيتين متتاليتين. واعتبر من أنجح رؤساء أميركا على الرغم من فضيحة ارتباطه بطالبة متدربة في القصر الرئاسي، لكن دورة التضخم اكتملت في عهده.
عاود الجمهوريون سيطرتهم على سدة الرئاسة لدورتين متكاملتين، أمسى فيها جورج بوش الابن رئيسا. وكانت بالنسبة للعرب من أحلك الحقب. فقد وقف خلفه المحافظون الجدد، وطرح مشروع الشرق الأوسط الجديد الذي سينبثق من رحم الفوضى الخلاقة. وجرى احتلال أفغانستان والعراق، وبدأت المنطقة بأسرها تتهيأ لانهيارات كبرى. وشهدت أيامه الأخيرة، بروز أزمة الرهن العقاري التي تحولت لاحقا إلى أزمة اقتصادية عالمية، لا نزال نعاني من تبعاتها حتى يومنا هذا.
تسلم باراك أوباما سدة الرئاسة لدورتين متتاليتين، وبرغم انتهاجه سياسات اقتصادية أسهمت في إيقاف حالة الانهيار في الاقتصاد الأميركي، فإن البلاد لا تزال بحاجة إلى مزيد من جرعات الإصلاح، وتقوية الطبقة المتوسطة، ودعم الضمان الاجتماعي، وعمل دؤوب للحد من معدلات الجريمة.
الاقتصاد الأميركي، ومعه الاقتصاد العالمي، لا يحتمل عودة الجمهوريين إلى السلطة في الانتخابات المقبلة. فأمامنا أزمات اقتصادية حادة، في اليونان وإسبانيا والبرتغال، وسلوفاكيا وأيرلندا، وعدد آخر من بلدان العالم الثالث التي يعيش الملايين من أبنائها تحت خط الفقر، كما أن دورة التضخم الاقتصادي بالولايات المتحدة الأميركية لم تبلغ ذروتها بعد، وهي بحاجة لكي تكتمل، لدورة رئاسية أخرى على الأقل.
وصول الجمهوريون لسدة الحكم، وطرد مئات الألوف من وظائفهم، واستنزاف أكبر لدافعي الضرائب لصالح كارتلات السلاح. والنتيجة ستكون عودة ارتفاع معدلات الجريمة، وتدني قطاعي الصحة والتعليم، وإقفال ملايين المؤسسات الصغيرة.
لذلك لا يتوقع وصول رئيس جمهوري في الانتخابات المقبلة، وما يلوح أن الرئاسة ستكون من نصيب الديموقراطيين، والأغلب أنها ستحسم إما لنائب الرئيس جوزيف بايدين أو وزيرة الخارجية السابقة هيلاري كلينتون، أو مقاسمة بينهما، ما لم تحدث مفاجآت تغير هذا التوقع، لكن هناك شبه استحالة لعودة الجمهوريين.