يعود أصل كلمة "حسقلة" إلى رجل يهودي عراقي يدعى "ساسون حسقيل"، صاحب المقولة الشهيرة: "إن المال السائب يُعَلِّم السرقة". وكان "حسقيل" أحد أعمدة بناء الدولة العراقية الحديثة في عام 1921، حيث تولى منصب وزير المالية فيها، ليصبح أشهر وأنزه مسؤول عراقي في تاريخ الحكومات العراقية المتعاقبة. قال عنه أمين الريحاني: "إنه الوزير الثابت لعدم وجود من يضاهيه في علم الاقتصاد والتضلع في إدراك الشؤون المالية". ومدحه الكاتب العراقي خالد القشطيني لبراعته التفاوضية، حيث: "اشترط على شركة النفط البريطانية أن تعطي العراق حصة من أسهمها؛ مما مكَّن الحكومة العراقية من رهن هذه الحصة وتوفير الأموال التي كانت في أمسّ الحاجة إليها".
اليوم رسب نوري المالكي في دروس "الحسقلة" التي تأسست على يد أجداده، واختلطت عليه موازين الحق والباطل، فازداد في تخبطه وعدائه وكيل اتهاماته للمملكة بأنها راعية للإرهاب. فالمالكي يتطاول على المملكة؛ لدرء تُهَم الفساد التي تحاصره ودعوات الشهداء التي تقلق مضجعه. فخلال فترة حكمه تصدرت ست مدن عراقية قائمة أكثر مدن العالم تورطا في الإرهاب، وذلك طبقا لتقرير مؤسسة "فيريسك مابلكروفت" لرصد العمليات الإرهابية، حيث تربعت العاصمة بغداد على رأس القائمة، وتبعتها الموصل والرمادي وبعقوبة وكركوك والحلة. فخلال العام الماضي فقط شهدت بغداد 380 هجوما إرهابيا، أودت بحياة 1141 شخصا، وجرح فيها ما يزيد على 3600 آخرين.
كما فضح مؤشر الإرهاب الدولي للعام 2014 تخبط المالكي وتورطه بتسويق وتسليم ما تبقى من بلاده إلى أسياده في إيران، ليؤكد هذا المؤشر أيضا على حجم انخراط المالكي وحكومته في العمليات الإرهابية طيلة فترة حكمه؛ مما أدى إلى تفجير العنف الطائفي ليحتل العراق المركز الأول على مؤشر الإرهاب الدولي بلا منازع بين دول العالم.
ويبدو أن المالكي سلخ مفهوم "الحسقلة" عن جلدة آبائه، لتمارس حكومته أكبر السرقات في تاريخنا المعاصر. فخلال ولايته تم سرقة 400 مليار دولار من مبيعات النفط العراقي، وتهريبها إلى الخارج ضمن عمليات الفساد وغسيل الأموال، ليحل العراق مرة أخرى خلال فترة حكمه ضيفا كل عام على رأس قائمة دول المعمورة الأكثر فسادا في تقرير الشفافية العالمية دون منازع.
ولا شك أن خيبة أمل أجداد المالكي لرسوب حفيدهم في دروس "الحسقلة" تأكدت بعد تكبد الاقتصاد العراقي خسائر فادحة خلال فترة حكمه، تجاوزت 60% من عوائد النفط، و80% من الإنتاج الزراعي، و42% من المنتجات الصناعية. وهذا أدى بدوره إلى إقفال 33% من أبواب الشركات العراقية، وارتفاع نسبة البطالة إلى 41%، وازدياد عدد الفقراء بنسبة 250%، وتضاعف عدد الجرائم الأخلاقية بمعدل 430%.
ولأن المالكي أخل بمفهوم "الحسقلة" الذي أرساه أجداده، تراجعت مشاريع البنية التحتية العراقية بنسب غير مسبوقة، مما أدى إلى تردي أوضاع توليد الكهرباء بنسبة 42% وتدني مستوى شبكات الاتصالات بمقدار 31%، وارتفاع نسبة التلوث البيئي بمعدل 22% نتيجة استخدام المواطنين لمولدات الديزل؛ لتغطية العجز في مولدات الطاقة الكهربائية، التي تحتاج إلى أكثر من 62 مليار دولار أميركي لإعادة تأهيلها.
رئيس هيئة النزاهة في عهد المالكي، القاضي رحيم العكيلي، أكد: "أن المالكي تبنى سياسة معاداة الرقابة، وحماية الفاسدين ومنع ملاحقتهم، أو التحقيق في عمليات الفساد؛ لذا أخضع هيئة النزاهة لإرادته وجعلها أداة للاستهداف وتصفية المعارضين، وشاهد زور لمنح صكوك البراءة للموالين من الفاسدين والسارقين". وجاء نائب رئيس الوزراء العراقي، بهاء الأعرجي، ليؤكد في حديثه التلفزيوني قبل أيام أن: "العراق خسر خلال سنوات حكم المالكي 1000 مليار دولار دون أن ينجز شيئا يذكر".
لذا لا نلوم الشعب العراقي اليوم على ثورته وغضبه نتيجة تخبط المالكي وفساد حكومته عبر سنوات ولايته، مما أدى إلى فشلها في معالجة أزمة انقطاع الكهرباء المزمن، علما بأنها أنفقت أكثر من 40 مليار دولار على مشاريعها الوهمية والمتعثرة. كما لن نلوم المواطن العراقي على استيائه وامتعاضه؛ لأنه يعلم جيداً بأن بلاده تحتل عالميا المرتبة الخامسة في احتياطي النفط والمرتبة العاشرة في احتياطي الغاز الطبيعي. ومع ذلك لا تزيد كمية الطاقة الكهربائية المتوفرة في العراق عن 11 ألف ميجاوات وهي أقل من نصف احتياجاته، وأن هذا العجز جاء نتيجة استشراء الفساد في حكومة المالكي وتراجع إيراداتها.
لعل الشعب العراقي يتنبه اليوم إلى نتائج اتفاق إيران النووي وفك حصارها الاقتصادي، لتبدأ بمنافسة العراق في مجال إنتاج وتسويق النفط والغاز، خاصة وأن إيران تتسنم المركز الأول عالميا في احتياطيات الغاز الطبيعي، والمرتبة الرابعة في احتياطيات النفط، وهذا سيؤدي حتما إلى تراجع أسعار النفط والغاز لتزيد من تردي أحوال الخزينة العراقية وزيادة التدخل الإيراني في الشأن العراقي.
ولا شك أن المواطن العراقي أيقن أن السبب وراء سيطرة تنظيم داعش الإرهابي على مدينة الموصل خلال الصيف الماضي، كان نتيجة انسحاب الجيش العراقي بأمر المالكي؛ لذا طالبت اللجنة البرلمانية العراقية بمحاكمته في المحكمة الجنائية الدولية، خاصة بعد أن ثبت للجميع أن المالكي كان وراء فتح الباب على مصراعيه لمليشيات الحشد الشعبي الموالية لإيران لتأجيج الطائفية والإرهاب.
الشعب العراقي لن يقبل الإساءة لعروبته واستباحة موارده، بل سيطالب بمحاكمة المالكي وإدانته؛ لإهداره دماء وموارد شعبه، خاصة بعد أن تجرأ على قلب مفهوم "حسقلة" أجداده إلى مبدأ "حاميها حراميها".