عندما تفتقر الشعوب لإمكانية الإبداع وخلق ما هو جديد تهرع إلى إرثها القديم لتتبناه جاعلة منه واقعا في حياتها لتتهرب بذلك من فشلها في بلورة أفكار جديدة. وإن كانت بعض الشعوب تستطيع أن تطور هذا القديم ليتماشى مع واقعها المعاش، فإن الشعوب الإسلامية تجتر القديم اجترارا بحذافيره محاولة إرجاع مجتمعاتها حضاريا وثقافيا إلى ذلك الماضي السحيق ليتجانس مع الفكر المطروح.
فمنذ انهيار الإمبراطورية العثمانية لم يدخر منظرو الإسلام السياسي جهدا للحديث عن محاسن الدولة الإسلامية وضرورة العودة إليها كي تأخذ هذه الأمة المكان اللائق بها في سلم الحضارة البشرية، وتبنوا شعار (الإسلام هو الحل) وأوجدوا مصطلحات جديدة على غرار (المارد الإسلامي) الذي سوف يكتسح العالم عاجلا أم آجلا ناشرا العدل والفضيلة، مبشرين بصحوة إسلامية تعم المجتمعات المسلمة، فكان أن نشأت أحزاب إسلامية دعوية وأخرى جهادية تختلف في النهج لكنها تلتقي في هدف إحكام شرع الله على الأرض عن طريق الحكومة الإسلامية.
ولهشاشة الفكرة نفسها، وافتقار الإسلاميين للوعي السياسي الكافي، فقد تمكن الغرب من استغلال ظاهرة الإسلام السياسي بطرق مباشرة أو غير مباشرة ليكون سببا رئيسا في إضعاف حكومات دول المنطقة وإبقائها غير مستقرة أمنيا وسياسيا منذ خمسينات القرن الماضي ولغاية يومنا هذا.
عندما تبقى النظريات في نطاقها النظري دون ترجمتها على أرض الواقع يكون من الصعب الحكم عليها سلبا أو إيجابا، خاصة أن رواة التاريخ طمسوا الجوانب السلبية في مسار الدولة الإسلامية القديمة وأظهروا الجوانب الإيجابية فقط (رغم أن مسار الأحداث التاريخية شخص الكثير من السلبيات التي رافقت التاريخ الإسلامي). واستغلت الأحزاب الإسلامية الهالة المثالية هذه لترسخ صورة ناصعة للدولة الإسلامية في ذهن الأجيال المتعاقبة.
انطلق المارد الإسلامي لفضاء العمل السياسي و(الجهادي) العلنيين في العراق أولا بعد أن تم القضاء على نظام صدام حسين، فتشكلت حكومة عراقية تتكون في مجملها من أحزاب إسلامية شيعية وسنية، قابلها في المعارضة ميليشيات وتنظيمات شيعية وسنية مسلحة تمثل الإسلام الجهادي. ثم فسح المجال لهذا الفكر أكثر بعد ثورات الربيع العربي، ليتصدر واجهة الأحداث ويوضع على محك التجربة والاختبار. فبدا ماردا هزيلا ضعيفا يفتقر لأبسط مقومات بناء الدولة الحديثة. فأبجديات السياسة التي أخذها من الدولة الإسلامية القديمة لم تكن تفي بالغرض في عصر تعتمد إدارة الدول فيها على مبادئ سياسية غاية في التعقيد وعلى علاقات دولية متشابكة لم يرتق إليها فكر هذه الأحزاب الإسلامية، وتختلف عما كان عليه الحال في العصور السابقة.
فرأينا كيف أن الإخوان فقدوا السلطة في مصر بعد سنة من تسلمهم إياها، دون أن تشفع لهم سنوات معارضتهم الطويلة التي كشفت بطلان ما كانوا يبشرون به الأمة في امتلاكهم للعصا السحرية التي ستحل المشاكل السياسية والاقتصادية للمنطقة.
وهكذا فشل الإسلام السياسي (الدعوي) في أول اختبار حقيقي له في مصر.. أما الشق الآخر (الجهادي) من الإسلام السياسي المتمثل في تنظيمات كداعش والقاعدة في الطرف السني، وبميليشيات مسلحة في الطرف الشيعي.. فقد كانت ولا تزال الطامة الكبرى والصدمة الأكبر التي هزت المجتمعات الإسلامية، فهي ميليشيات وتنظيمات خارجة عن أي قانون إنساني عوضا عن القوانين الإلهية، تمثل أبشع ما وصلت إليه البشرية من دموية وإجرام متخذة تعاليم الإسلام نهجا لها للسيطرة على المجتمعات المسلمة، ومحاولة جر المجتمعات الإسلامية لتتقمص مجتمعات بيننا وبينها مسافات زمنية بعشرات القرون. فهذه التنظيمات والميليشيات تتخذ من الجهاد المحور الرئيس لأفكارها، ضاربة أسس العمل السياسي التي تحتاجه أي دولة محترمة عرض الحائط.
وعلى الرغم من أن الإسلام السياسي هو أكثر التشكيلات السياسية تهجما على أميركا والدول الغربية، إلا أن طرفيه السني والشيعي أصبحا مطية لهذه الدول تحركه وفق مصالحها (الاستعمارية). فلم يبق مثلا جهاز مخابراتي عالمي أو إقليمي لم يتغلغل في تنظيم داعش، ولم يبق حزب شيعي عراقي لديه استقلالية في قراره السياسي بوجود التأثير الأميركي والإيراني في العراق. وفي الحقيقة فإن هذه نتيجة متوقعة لهذا النوع من الأحزاب.