قبل أن أبدأ في كتابة هذه السطور، أود إثارة تساؤل في ذهن القراء؛ وهو ما الدافع الحقيقي وراء العلميات الانتحارية لقتل المصلين مثل ما حصل في أبها؟ وبسؤال أكثر عمقاً؛ ما الأصل الذي تعتمد عليه جماعات التكفير اليوم في قتل الآخرين؟ وهل هو مقتصر على تلك الجماعات؟
سأذكر مثالا ليتضح عمق المشكلة أكثر؛ ففي الشام يقتل الداعشي ويكفر أتباع جبهة النصرة، والتي تُعد - أعني الأخيرة - متطرفة أيضا بتطرف لا محدود، والتي أعلنت انتماءها للقاعدة! مع أن داعش نفسها كانت إلى أقل من ثلاث سنوات تعد فرعا من فروع القاعدة نفسها، وكل أدبياتها هي نفس الأدبيات التي تنتهجها القاعدة سوى الخلاف الشكلي والمبالغة في القتل من داعش إلى حد جعلنا ننسى تطرف القاعدة! إذاً ما الأصل الذي يبني عليه الدواعش قتل وتكفير "القواعد"؟
عند البحث في هذه المسألة؛ نجد الكثير من الأسباب، فهل يكفي أن نقول إن داعش والقاعدة يفهمان النصوص بشكل خاطئ؟ هذا السؤال سيعود بنا إلى سؤال آخر؛ وهو مَن الذي يمتلك تفسير النصوص ويقول هذا خاطئ وهذا صحيح؟ إن قلنا العلماء، فهم يدعون أن لديهم علماء! وسنبقى في جدال فارغ.
لأجل هذا يجب أن نبحث في عمق السبب الذي يُبرر لهؤلاء. دعونا نحلل كيفية ومسار تفكير هؤلاء؛ فهم يعتمدون على فتاوى وقراءات خاصة برموز لهم للنصوص الشرعية، ويعتبرون أن اجتهادات هؤلاء الرموز هي الحق الذي لا حقّ غيره! وأن على الجميع اتباع هذا الاجتهاد وإلا فهم كفار مرتدون!
وإذا سألناهم؛ بأن هناك من العلماء الكبار يفتون بفتاوى تخالف آراءكم، فهم ببساطة يرون أن على أولئك العلماء أيضا أن يتبعوا رموزهم وإلا فهم مرتدون كفار! والسؤال هنا؛ هل بقية الحركات والمدارس الإسلامية الأخرى تمتنع عن نفس هذا الأسلوب؟ أم أنها تمارسه ولكن بشكل مختلف؟
الحقيقة أن فكرة التقليد لآراء علماء محددين هي الفكرة التي تعمقت وتجذرت في العالم الإسلامي، وهي التي على أساسها نشأت الفرق والمذاهب، وأصبح السائد هو إسلام الطائفة وليس الإسلام الرحب والواسع. أغلب هذه الطوائف والمذاهب في حقيقة أمرها تعد الإسلام ما يؤمن به رموزها فقط، وأن على الآخرين اتباع أفكار أولئك الرموز باختلاف درجاتهم وأصنافهم (سلف/ آل البيت/ عالم/ وليّ ..)، وإذا حاورتهم بأن العالم الفلاني لا يؤمن بما تؤمنون به في نقطة معينة، فإنهم يبادرونك بأصول تدور حول اتباع رموزهم وليس النص الشرعي، حيث إذا كان الواجب اتباع النص الشرعي؛ فإن الله يخاطب كل بشر حسب فهمه هو، وإذا ألزمنا الآخرين باتباع آراء علماء أو أشخاص معينين؛ فإن ذلك يعني بوضوح تقديسا ومعصومية لأولئك الأشخاص، وليس تقديسا للنص نفسه الذي يفهمه بشكل مختلف، وهذا اعتداء على جناب التوحيد ونوع من الكهنوت والبابوية بلا شك.
خلاصة هذا الكلام؛ أن أغلب التيارات الإسلامية تعتمد في دعوتها وتبشيرها بمناهجها وأدبياتها على نفس فكرة قداسة أفكار رموزها وأنها تمثل الإسلام وحدها، ويجب على الآخرين اتباع هذه الاجتهادات، وإلا فهم ضالون، حتى لو كانت مخالفتهم مبنية على اجتهاد لهم، فالحق لديهم لا يوصل إليه باجتهاد الشخص، وإنما يجب أن يتخذ علماؤهم وسائط لفهم النص وتفسيره.
سؤال؛ هل يعني هذا أن كل إنسان حر في تفسير النص كيف يشاء دون التزام بالقواعد العلمية؟ بالتأكيد لا، ولكن هل الحل إجبار الناس على أفهام أناس ستدخل نزعة الإنسان البشرية في اختياره وفرض آرائه على الآخرين؟ إذًا ما الحل؟
والجواب باختصار؛ هو أن هناك فرقا بين الواجب على الإنسان تجاه نفسه، والذي يتركه الله ليكون بين الإنسان وربه (كل نفس بما كسبت رهينة)، فاعتقادات الناس وإيمانهم متروكان لهم، وليس من حق الآخرين فرض أفكارهم وآرائهم بما يخالف اجتهادات الإنسان، وفي نفس الوقت الإنسان مطالب باتباع الحق والبحث عنه، ومن التجرد أن يكون البحث من خلال الطرق العلمية وليس العبث بالنصوص، هذا جانب. أما الجانب الآخر، وهو ما يتعلق بالآخرين والنظام العام، كتوقيت الصلاة أو الحج أو حتى الأنظمة العامة؛ فإن الأمر يختلف، كون الشخص هنا يجب أن يخضع للمصلحة العامة، وبالتالي يجب عليه اتباع النظام والمصلحة العامة، ولا يعني هذا أن الشخص يجب عليه أن يؤمن بصحة ذلك الاجتهاد الذي تحول إلى نظام عام، وهذا قرره الفقهاء قديما أيضا.
كثيرا ما يستدل البعض هنا بآيات ونصوص الحضّ على سؤال أهل العلم واستفتائهم، والجواب بوضوح نعم يجب على الإنسان البحث عن الحق، ومن ضمن آليات البحث سؤال أهل العلم، ولكن ماذا إذا كان الإنسان قد اجتهد وبحث واقتنع بأنه يعلم ما الحكم؟ الجواب في النص نفسه (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون)، فالسؤال واجب في حال عدم العلم فقط، ولو قلنا إن السؤال واجب في كل الأحوال لأصبح الإسلام طبقية كهنوتية حرفية دون أدنى شك! وكأن أولئك العلماء يفتون عن الله تعالى، ومن هنا نشأ تحريف الأديان السماوية الأخرى. وهذا يجرنا لسؤال آخر؛ من الذي يحدد العالم والعامي؟ لا يوجد جواب هنا سوى أن الله ترك الإنسان وضميره وصدقه، وسيحاسبه الله إن أحسن أو قصر، وكم من مجتهد باحث عن الحق أفضل بكثير من متعصب جاهل يقاتل الناس على أفكار غيره ويكرههم عليها!
ما الحل إذًا؟ بنظري أن الحل الاستراتيجي لننجو وينجو أبناؤنا والأجيال المقبلة؛ هو تعزيز روح التسامح مع الآخر، وتعزيز روح الحوار العلمي الهادئ، والتحول إلى الدعوة بالإقناع والحوار وليس القتال والإكراه، وتجنيب حياة الناس واستقرارهم هذا الجدل الذي لا يمكن أن ينتهي إلا بآلاف الجثث وربما الملايين منها!