بعد الأرواح البريئة التي ذهبت ضحية تفجيرات الغدر، أصبح الوضع الجاري لا يحتمل المجاملة، ولا التخفي خلف مقالات وكلمات المدح والتزلف؛ لأن علينا أن نعترف بالمشكلة الحقيقية كي نستطيع إيجاد الحلول لها، ومشكلتنا تكمن بالسؤال الذي يتردد كثيرا عمن يتحمل وزر تفشي الفكر الضال بين الشباب، سواء بقصد أو بدون قصد؟
من الجهة أو الجماعة التي مهدت وبسطت الطريق إلى هذا الوبال، وأقول وأمري إلى الله إن هناك مسببات كثيرة من أهمها التعليم، ويرى كثيرون أنه أول المسؤولين عن ذلك، وكثيرون خاضوا في هذا الأمر، لكن ثمة مؤثر كبير في أوساطنا لم نستطع السيطرة عليه، أو حتى كبح بعض اندفاعه، وهو العمل الخطابي التوعوي الدعوي الديني، ولن أتردد بأن أقول إنه أول من يتحمل وزر ذلك، فعبر ما نقرأ أو نسمع، فالتركيز منصب على الحلال والحرام والصحيح والخطأ، والدعاء على مخالفيهم بالموت والعذاب في الدنيا والآخرة، أما من يحتاجون إلى أن يكونوا قدوة وقادة تربويين لهم فأشغلوهم بالعدو ورفضه ورفض التحاور معه وما يتبع ذلك من أحزان أخرى.
وحاليا حينما أردنا مواجهة هذا الفكر المتطرف، وجدنا أن خطاب من احتجنا إليهم للقيام بذلك هو نفس الخطاب، بنفس التوجه والفكر، لذا كانت حسرتنا أكبر ومصيبتنا مستمرة؟! فهم أصبحوا أمام جيل لم يعلّموهم كيف يفكرون ويحاورون لاتقاء مثل هذا الفكر، لم يدربوهم كيف يميزون بين الخبيث والطيب، بل أسسوهم متلقين منفذين، لا مجال للعقل عندهم بل تغييبه والأخذ بالنقل، وما يقوله مشايخهم؛ لهذا ظهر من استغل هذا البعد السيئ ليزيد من التلقين ويوغل في إقصاء العقل وتبرير ما يقومون به من أناس يعتقدون أنهم هم من يملك الحقيقة، فكان النتاج قتل النفس التي حرم الله قتلها.
الخطاب الديني الحالي -ونضم إليه ما يغرد به الذين يتصدرون مواقع التواصل الاجتماعي- لا يصلح أن يكون المواجه للفكر الإرهابي والتحذير منه، فمن لا يملك الأدوات كيف له أن يحسن العمل؟ فمن لا يؤمن بالتعددية الثقافية والتعايش والتسامح ويحث على ذلك في خطبه ومجالسه ومنابره الرسمية لن يكون قادرا على أن يوصل الرسالة الخاصة بتحريم قتل المسالمين، وغير المسلمين حتى ممن نختلف معهم منهجا أو دينا.
هل حمل الخطاب الديني بكل أشكاله المعلنة -حتى ما يخص خُطب الجمعة- ما يدعو إلى رفض الطائفية، وكل ما يذهب إلى التمييز الديني والعرقي؟ هل سمعنا في يوم من الأيام أن أحد المنتمين إلى العمل الدعوي "من غير المنتفعين" دعا إلى تحقيق العدالة الاجتماعية بين كل من يعيش على هذه الأرض الطاهرة ونادى بالتسامح والالتقاء والانفتاح على الثقافات القائمة في العالم، لا سيما أن لا أحد يستطيع أن يمنعه في ظل العولمة غير الاختيارية القائمة؟
القرآن الكريم والسنة النبوية وحتى موروثاتنا الاجتماعية والثقافية تعزز من التسامح واحترام الشعوب الأخرى، والتعامل معها ولذلك لم يرتبط الإرهاب بالإسلام عبر تاريخه سواء أكانت دولته قوية أم ضعيفة إلا في عصرنا الجاري، ونجزم أن تغير الخطاب وانغلاقه هما السبب الرئيس في ذلك.
علينا أن نفكر جديا في إعادة صياغة الخطاب الديني والرسائل الموجهة، وألا نركن إلى من يخرج علينا ليستخف بعقولنا وكأنه هو من يملك الحقيقة، وعلى الآخرين أن ينصاعوا له، فالزمن تغير ولا بد من إعادة تنمية التفكير والتعقل كي يدرك حقيقة ما حوله، فقد سئمنا تعبئة أبنائنا ليكونوا آلات مطواعة، وحينما ننشغل عنهم يجدون من يعيد تحريكهم وتغذيتهم بنفس النهج لكن وفق المفهوم العدائي التفجيري.