تقرأ رواية (نجران تحت الصفر) المكتوبة عما قبل نصف قرن مضى، لتغطي من ذاكرتك ما لم تعرفه عن تاريخك الجنوبي، ثم تستعيد ما تذكره طفلاً أول الثمانينات الميلادية قادماً من تبوك بالطائرة على الدرجة الأولى رفق عائلتك، لتهبط مباشرة في أبها ومنها إلى حورة قيس برجال ألمع، فتكتشف أهلك لأول مرة في حياتك، من خلال جدتك (عائشة) وقاموسها اللغوي الغريب عليك، تكتشف حقيقة أهلك كفلاحين برفقة البقر والغنم يستعينون بثيرانهم ليشقوا صدر الأرض فيزرعون أنواع الحبوب والثمار، من دخن ذرة، مع أشجار البن في حقول (ابرمصعود)، أما الموز فهناك في الأعلى قليلاً حيث جبل ريدة والحصون القديمة، تستمع لهم فلا تجد سوى أحاديثهم عن (ابر مانع) بقصائده البديعة، ومطالع النجوم التي أتقنها، ليحدد لهم مواسم الزرع والحصاد، وحكاياه عن النبوءات القادمة كملاحم شعبية لا تنتهي.

تصعد إلى أعلى جبال قيس برجال ألمع حيث يقع حصن الرها وتاريخ النضال ضد الأتراك عبر الجد الأول المسمى (القثردي) تعيد اكتشاف المكان، فتعرف الفرق بين حصنٍ قابلٍ للبيع، يشيّده تاجر، وحصن يحرس الأرض، يتوارث الأحفاد الموت دون بابه، يشيّده فلاح، فتتأكد أن قدر الجبليين يختلف عن قدر غيرهم، قبورهم دائماً معلقة بأوتاد الأرض باتجاه السماء، تمسك حجر الثمالة/المصاطب وأنت تدرك أن جدك العشرين مر من هنا، تستنشق عبق الحصون القديمة، تنظر من نوافذها، وأنت تعلم أن أجدادك يوماً نظروا من نفس النافذة لنفس المنظر.

التقيت العم (محمد بر حسن) في دكانه القديم بالجمعية في وسط أبها، حكى لي ذكريات الطفولة عن الإدريسي، ثم تقلبات الصبا والشباب ليكون رفيق شيخ القبيلة في مبايعة عبدالعزيز، أحببت هذا الحكيم الصبور في دكانه لأنه لا يقرأ ولا يكتب ولا يقود السيارة، لكنه بعقله وتجاربه يدرك مفاصل الأمور وحساباتها بشكل يتعب الدارسين فيحيلهم إلى مدروسين.

يأتي إبراهيم القثردي يطلب مني مرافقته لفندق البحيرة لشرب القهوة السوداء كمكان يعطينا شعوراً برجوازياً يضايقني، وعندما يلمس هذا مني، يدرك أين تكمن سعادتي، فيأخذني إلى مقهى للعمال الأتراك في شارع فرعي بشمسان، حيث أجد في الطاولات والمقاعد الخشبية شيئاً يشدني لأكون أنا الحقيقي، تلك الأنا التي عَرَفَت أن الفلاح الجبلي يبقى رهين الأرض، شامخاً بحصنه، المبني بحجارة أرضه، يتأمل التماع البحر ذات صفاء جوي من هناك، من ذروة الجبل على بعد خمسين كيلو من الشاطئ ورغم هذا يراه، فيا له من خيال فاتن.

يأخذني أبوخالد إلى مدرسته القديمة حيث الذكريات مع خاله أحمد بجوار مسجد السقا العتيق، وإلى حصون آل عايض، أتأملها ويتأملني من خلال تأملي لها، فأنظر في الأبواب المغلقة للحصون القديمة وينظر في عيني يستجديني الكلام، ولا أجد ما أقول سوى: خذني من هنا، أكره ظلي إذا استطال وتجاوز قامتي، فالظل مهما استطال لن يغير من حقيقة قامتي المتواضعة شيئا، ويبقى الظل فقط كدليل على شروق شمسي أو غروبها، أمَّا إذا كانت الشمس في كبد السماء فليس هناك سوى قامتي الحقيقية بلا ظل يغوي الناظرين، ولهذا ما زلنا نقول في عسير إذا مات أب الرجل: شرقت شمس فلان ويقصد بهذا أنه بدأ تاريخاً جديداً يخصه ولم يعد يعيش في (ظل والده)، وما أكثر الأولاد الذين يعيشون في ظل آبائهم ولم تشرق شمسهم حتى الآن، رغم كبر أعمارهم.

تمنيت في قلبي زيارة قلعة ذرة، لكنها أصبحت مطعماً وتلفريك، وبدلاً عنها هناك قلعة شمسان، والعمل على ترميمها من هيئة السياحة قائم ومستمر، مررتها في وقت آخر مع أخي عبدالغني وجدنا العمال يعيدون رص الأحجار، كنت أتأمل العمَّال اليمنيين وأتخيل أهل الأرض وهم يبنون حصونهم ومنازلهم بنفس الطريقة، صافحت البناءين وكم كنت فخوراً بخلب أياديهم وهو يلتصق بيدي، كنت أتوضأ بتراب أيديهم من طراوة في يدي لم تكن في يد أبي وجدي، لكنه الرفاه الذي يأخذ حياتنا ذات المعنى، ويعطينا الدنيا بلا معنى.

كنت ألتقي عبدالرحمن السيد قبل عقد من الزمان تقريباً، لم أعد ألتقيه، لكني أسمع منه وعنه فقط، عيسى سوادي لم أره، لكني أشعر به، أحمد التيهاني يغمرني بلطفه وأناقته من حين إلى حين، لكني أهرب منه بلطف أكبر وأناقة أقل، عرفت معنى كلمات إبراهيم طالع عندما يأخذ التراب بيده من على الأرض ويرفع صوته بوجهي رافعاً قبضة التراب بيننا ويقول: "يا ابرمتعالي نحن معجونون بهذا التراب الجبلي، فإياك إياك أن تتكبر على جبالٍ تتقطع بها امطير/الطير، نحن سلالة العتم والعرعر والسدر، نحن أصل باريس في عطرها المقلد من عطورنا في البرك والشيح والفل والكادي"، هدأت من روعه وقلت: ما أعرفه أن جبالنا مصدر حيرة عند المؤرخين من كمال الصليبي إلى زياد منى إلى فاضل الربيعي وما يثير استغرابي الغضب الشديد من هذه القراءات، متناسين أن عسير موجودة قبل البعثة فلماذا يربكنا من يضئ لنا برأيه (الذي لا يفرضه) ما خفي علينا من تاريخ جنوب الجزيرة قبل البعثة، يكفي أن نتأمل أسماء القبائل لنستشف من خلال سيمياء اللغة بعض الضوء ولو كان قليلاً، كقبيلة بني عبدالعوص وبني عبد شحب كدليل وجود تاريخي يتجاوز ألف وأربعمائة سنة، وآثار الممالك الجنوبية وحضارتها الظاهرة في نجران والمستترة في جبال عسير وسهول جيزان تعطينا ثقة أكبر في بحوث تاريخية تتجاوز أكواماً من الكتب أنهكتنا تنقيباً في قرنين من الزمان، بينما المكان يقاس بآلاف السنين، فيا لبؤس المؤرخ المحلي.

عندما أتأمل المصاطب العتيقة في جبال عسير تصيبني رعدة الطفل لأولئك الرجال الذين نحتوا الجبال واستزرعوها بأياديهم فقط، ليسموا الحقول (إمبلد/البلد) وتجمعهم السكني في حصونهم المتجاورة فيسموها (اموطن/الوطن)، إن الجبليين يستحقون رواية جبلية تحكى عنهم كرواية الحزام لأحمد أبودهمان، ورواية جبلية أخرى تحكي لهم كيف يجب أن يكونوا كرواية (بلدي) لرسول حمزاتوف، أما جيزان فقد حكاها يحيى امقاسم في (ساق الغراب) وما زلنا ننتظر أكثر وأكثر.

ويبقى الحد الجنوبي من جيزان الزاهية غرباً إلى نجران الصارمة شرقاً وبينهما عسير، بلادا تستحق الموت الجليل فداء لها، هكذا فعل أجدادنا من أيام النضال ضد الاستبداد العثماني، مروراً بطائرات عبدالناصر وانتهاء بقذائف الحوثي البائسة، ومن أدماه منجل الصريم ليس كمن يحكي عنه، والرجولة ليست على قارعة الطريق، إنها في قلوب الرجال، والحزم كل الحزم أن لا تضيع الأرض في شراء السماد.