أجزم بأن كافة السعوديين ابتهجوا وفرحوا بالأمر الملكي الكريم الذي أصدره خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز لإحالة المتورطين في كارثة جدة إلى التحقيق استكمالاً لمتطلبات العدالة وإنصاف الضحايا ومعاقبة المجرمين.. وتبدو هذه البهجة والفرحة ليستا فقط استجابة للحظة عاطفية تفاعلت مع حزن الضحايا بل هي عاطفة يحركها إحساس واع بأن الحرب على الفساد لن تكون "موسمية" ولن تشغلها الظروف الآنية عن الاستمرار في وضع الأسس والضوابط الكفيلة باجتثاث هذا الداء الذي ينخر في مكتسبات الوطن . ففي الأمر الملكي الكريم إشارة أصيلة لتأكيد عظم المسؤولية العامة وجسامة التخلي عنها والتأكيد على المضي بعزم وقوة وإصرار على طريق حفظ كرامة وأرواح المواطنين ومن يقيم على تراب هذا الوطن والانتصار للحق وإرساء معايير العدالة.. وأكد الأمر الرغبة الملكية في الوقوف على الحقيقة كاملة غير منقوصة حتى لا يظلم متهم أو يبرأ مجرم مع التأكيد على إيقاع الجزاء الشرعي الرادع على كل من تورط أو قصر أو أدى تورطه أو تقصيره إلى الفاجعة الأليمة التي أودت بحياة الأبرياء وأتلفت أموال من لا ذنب له ولا حيلة في دفع أخطاء المتسببين.
والشعور المتولد لدى المواطنين أن الأمر الملكي فيه من الإشارات والتوجيهات ما يتجاوز معالجة الكارثة إلى برنامج وطني يهدف إلى الوقوف في وجه أسباب الفساد والذرائع التي تقود إليه وكل ما يساعد المفسدين على النجاة من العقاب.. فقد ورد في الأمر الملكي فقرة بالغة الأهمية في محاربة الفساد وهي التي تنص على إدراج جرائم الفساد المالي والإداري ضمن الجرائم التي لا يشملها العفو.. هذه الفقرة تؤكد العزم على "تجفيف" منابع الفساد ومحاصرة ثقافته في المجتمع و"قطع" الآمال التي تزين لأهله التورط في مفاسدهم على أمل أن يشملهم العفو إذا عوقبوا، هذه الفقرة تتصدى لمعالجة "مزاج" عام ساد بين المفسدين. فقد كانت هذه الفئة تخطط لجرائمها في مناخ ثقافة "العفو" التي تمحو أخطاء الدنيا بعد أن غاب عنها الخوف من الله وتقدير حساب الآخرة وماتت ضمائرها فلا تؤنبها مظلمة بريء ولا تؤلمها دموع مقهور.. كانت ثقافة "العفو"، في جانبها الحميد، تقليداً تصلح به القيادة نفوس بعض من تورط في خطأ غير مقصود أو قادته ظروف غير مقدرة إلى العقاب لكن هذه الثقافة استغلها المفسدون للإفلات من جرائمهم وعدم حرمانهم من ثمرات فسادهم.. كانوا يخططون لأكل المال العام والتعدي على حقوق الناس مقدرين أن النفاد من العقاب حاصل فحتى إذا عوقبوا بقي "أمل العفو" يفتح لهم باب التمتع بما سرقوا بعد الخروج من العقاب أو الإفلات منه قبل وقوعه.. فجاءت هذه الفقرة في الأمر الملكي الكريم لتقول للمفسدين في المال العام والإدارة إنكم لن تفلتوا بعد اليوم وإن تربية "العفو" لا تستحقونها لأنكم لم تعفوا نفوسكم فلا تطمعوا في العفو. وحتى تتفاعل أهداف الأمر الملكي مع بيئة إيجابية وتنمو بصورة طبيعية وصحية أرى أن من المفيد أن يخرج أفراد المجتمع من حال الشك والريبة وفقدان الثقة في اللجان التي تشكل لمعالجة قضايا الناس. مع تقدير أن نزعة الشك التي تسيطر على الكثيرين حيال اللجان والهيئات الرسمية مصدرها خبرات متراكمة في ظل غياب المساءلة وغلبة "التستر" على العيوب والتغاضي عن الأخطاء تحت مظلة "عفا الله عما سلف". وسيكون من أسباب ترسيخ هذه الثقة في نفوس الناس ودعمها أن يشترك المواطنون، من ذوي الخبرة والاختصاص، في تقصي الحقائق وتقدير الأضرار ومتابعة المحاكمات، وهذا التوجه ينسجم مع رغبة القيادة في توسيع دائرة المشاركة الشعبية في إدارة شؤونها ومصالحها. وهذه المشاركة لا تتم بشكل منظم وفعال وحضاري إلا من خلال مؤسسات المجتمع المدني التي لا تعمل بنظام الاجتهاد الفردي أو الميل العاطفي أو الانحياز القبلي أو الجهوي لكنها تعمل وتتفاعل مع قضايا المجتمع وفق ضوابط قانونية وأنظمة مكتوبة تستند على مبادئ يقرها المجتمع ويرجع إليها حين تختلف الاجتهادات والآراء. وخطة محاربة الفساد الجادة تحتاج إلى ثلاث خصال: "الاستمرار" في اجتثاث منابع الفساد وكشف المستفيدين منه، مهما كانوا ومهما كانت مساهمتهم في هذا الوباء، ثم "الصرامة" المصاحبة للقانون والنظام، فلا تعدٍّ على كرامة أحد ولا طعنا في ذمته أو نزاهته ولا تقييدا لحريته إلا من خلال القانون، فليس الشك أو الضغينة أو الكراهية أو الخصومة سبباً يهدر كرامة الأبرياء أو يسيء إلى سمعتهم.. ثم "العدالة" التي تنصف الجميع ولا تحابي الكبير على حساب الصغير أو تغض الطرف عن الشريف إذا أكل مال الوضيع.. فلا شرف مع الظلم ولا وضاعة مع الحق.. العدالة هي المظلة التي تحمي الجميع من الجميع.. تحمي الضعفاء من سطوة الأقوياء وتلجم شهوات الطامعين في التهام حقوق الضعفاء، العدالة التي تقف في وجه من يريد أن يعاقب الأبرياء حتى يكتسب شعبية العامة أو يظهر بسطوته نقاءه أمام الناس. فإذا تبلورت ملامح هذه الخطة فإنها تحتاج إلى بيئة مجتمعية تعرف مسؤوليتها وتدافع عن حقوقها وترفع من شأن العفاف والنقاء. لن تكتمل دائرة محاربة الفساد إلا بوجود مجتمع يساعد على إشاعة ثقافة النزاهة وينبذ الفاسدين ويكشف أهل الغش والزيف في كل حقل. تحتاج خطة محاربة الفساد إلى صاحب الحق الذي يقول: لا. والذي يصمد أمام الضغوط وتعطيل المصالح دون أن تمتد يده لتقديم "التسهيلات".. لكن هذا الذي يقول: لا يحتاج إلى جهة قادرة، بالقانون، على إنصافه من المفسدين إذا عطلوا مصالحه وساوموه على "دهن السير". حينها يستطيع أن يقول لا وأن يكون عاملاً إيجابياً في محاصرة منابع الفساد.