تموج المنطقة منذ 2011 بحالة اضطراب كبرى بدأت بانهيار النظام الإقليمي وانتهت بحرب باردة مفتوحة على عدة جبهات بين قطبي الإقليم حاليا (المملكة وإيران). شرارة الربيع العربي التي انطلقت في المنطقة وإن كانت إيذانا بالفشل الداخلي لعدة أنظمة فإنها أيضا كانت تعبيرا عن عجز النظام الإقليمي لموازنة نفسه، وهو ما تمثل في حالة السيولة التي شهدتها عدة دول (سورية والعراق واليمن وليبيا) بتحولها إلى مسارح صراع إقليمي تخبطت أغلب قوى الإقليم فيه أو عجزت عن مواجهة ما تمخضت عنه تلك السيولة من فوضى أبرزها عودة الإرهاب المنظم (داعش). وبالنظر لتطورات الأوضاع في إقليمنا المضطرب على مدى الأربعة أعوام الماضية تكشف عن وجود أربعة تغيرات بنيوية أساسية في السياسة الإقليمية تمثل الخطوط العامة المؤثرة في تطور الأحداث:
أولا: الانسحاب الأميركي من المنطقة: شكل انسحاب القوات الأميركية من العراق 2010 مع التوجه الاستراتيجي بإعادة التموضع نحو المحيط الهادئ نقطة تحول في المنطقة تمثلت في غياب الدور الأميركي في لحظة تاريخية لم تكن المنطقة مهيأة فيها للتكيف مع هذا التغير. وظهرت آثار هذا التحول في ابتعاد الولايات المتحدة عن لعب دور فعال في فترة سقوط بعض الأنظمة العربية وما أنتجه هذا الأمر من سيولة سياسية (سورية وليبيا)، وكذلك في انتهاجها مبدأ الخروج السريع من الإقليم بعدم الاستثمار الجاد في مفاوضات فلسطينية – إسرائيلية، ومحاولة الوصول لاتفاق نووي عاجل مع إيران، بالتركيز من جهة أخرى على جهود مكافحة الإرهاب بالتعاون مع إيران إضافة إلى حلفائها الإقليميين. ما أنتجه هذا العامل هو زيادة الثقة الإيرانية ودفعها للتعمق أكثر في مغامراتها الإقليمية.
ثانيا: عودة الدور الروسي للمنطقة: عمليا، أخرج الرئيس المصري أنور السادات الدور الروسي من المنطقة بتوقيعه معاهدة السلام وتحول علاقات مصر الاستراتيجية نحو الولايات المتحدة. منذ ذلك الحين ظل لروسيا دور رمزي في المنطقة متمثل في بعض صفقات السلاح (سورية والجزائر) وبعض الأدوار الدبلوماسية (العراق وفلسطين) إضافة إلى ثقلها بحق النقض في مجلس الأمن، وكانت إيران الورقة الروسية الرابحة في المنطقة التي استخدمتها للمقايضة على مصالحها الأساسية المتمثلة في شرق أوروبا ووسط آسيا. تحركت روسيا بذكاء واقتدار لملء الفراغ الأميركي في المنطقة وعادت من بوابة سورية لتلعب دورا رئيسيا في الإقليم قادرا على تغيير موازين القوى، مع عودة انفتاحها على بعض الدول (مصر والعراق).
ثالثا: دخول تركيا للمنطقة: ظلت تركيا مشتتة لفترة طويلة بسبب عدم وجود محيط حقيقي تنتمي إليه، واجه انضمامها للاتحاد الأوروبي عددا من العراقيل، وواجهت رغبتها في بعث أمة تنتمي للعرقية التركية تمتد إلى وسط آسيا بحقائق التاريخ والجغرافيا السياسية. أتاحت الأعوام الأربعة الماضية دخول تركيا للمنطقة من منطلق دور سياسي حقيقي وليس مجرد دور اقتصادي وإعلامي كما كان وضعها قبيل ذلك. تمثل هذا الأمر بالصعود السريع لجماعة الإخوان المسلمين المدعومة إردوغانيا، وكذلك بتطور الوضع السوري والكردي (في العراق وسورية) الذي فرض على الإقليم وجودا تركيا لم ينسحب بسقوط جماعة الإخوان في المنطقة.
رابعا: صعود الدور السعودي:
فرضت حالة السيولة السياسية في المنطقة في ظل المنافسة المكتومة بين السعودية وإيران أن تتحرك المملكة لملء الفراغ الإقليمي الناشئ واتخاذ سياسة أكثر فعالية، فسقوط نظام مبارك والانسحاب الأميركي شكلا انكشافا سياسيا تعاملت معه المملكة بتثبيت تحالفاتها الإقليمية (الإمارات والأردن ثم لاحقا مصر) وانتهاج سياسة التدخل لدعم منظومة أمنها الإقليمي (مصر والبحرين واليمن). وتمثل بروز الدور السعودي الجديد في المنطقة من خلال نقطتين رئيسيتين: استقلالية كبيرة عن الرؤية الأميركية بل تعارضها أحيانا، وتحول المنافسة السعودية الإيرانية في الإقليم إلى صراع مفتوح.
إن ظهور "داعش" رغم ما أحدثته في المنطقة من صدمة يظل أحد تمظهرات التفسخ السياسي في الإقليم وليس أحد مظاهر تغيراته البنيوية، فدول المنطقة تملك قدرة إعادة التوازن الإقليمي وتجاوز "الظاهرة الداعشية"، لكن الوضع الإقليمي لا يزال غير مهيأ لإحداث هذا الأمر كون الصراع مفتوحا على عدة جبهات في ظل الانسحاب الأميركي والعودة الروسية. لكن نافذة إعادة التوازن الإقليمي فتحت من جديد بحدوث تطورين إقليميين رئيسيين:
1- نشوء التحالف الإقليمي في اليمن بقيادة السعودية: شكل هذا التحالف في أحد أوجهه الرئيسية ضربة للوجود الروسي الجديد في المنطقة، ودعمته السياسة النفطية التي اعتمدت استخدام "وسادة الفوائض المالية" كسلاح ضاغط على كل من روسيا وإيران. أعاد هذا التحالف حسابات الأطراف فيما يتعلق بالوضع في سورية، وبالإضافة إلى الضربات المتتالية التي لحقت بالنظام السوري وتأثير نقص الفوائض المالية على روسيا وإيران أصبح من الممكن اليوم النظر لصيغة تفاهم محتملة مع روسيا فيما يتعلق بمستقبل بشار الأسد ونظامه. إن سياسة سعودية أكثر حزما (assertive) تفتح الباب لخلق أوراق تفاوض مع روسيا يمكن ترجمتها بمكاسب سياسية.
2- نتائج الانتخابات البرلمانية التركية: شكل عدم حصول حزب العدالة والتنمية على العتبة الانتخابية لتشكيل حكومة أكثرية فشلا ذريعا وإن نجحوا في الحصول على أكبر عدد من الأصوات. هذا الفشل يعني نهاية توجه السياسة الإردوغانية ومشروعها الإقليمي، فالرئيس التركي أصبح اليوم ضعيفا بحكم ما يفرضه عليه الدستور. هذا الأمر يفتح بابا كبيرا لرأب الصدع بين تركيا ومصر، خاصة أن كثيرا من رجال الأعمال الأتراك (بما فيهم المنتمون لحزب العدالة والتنمية) تضرروا اقتصاديا من إلغاء "اتفاقية الرورو" مع مصر.
في هذا السياق، تبدو المنطقة مهيأة لتجاوز حالة الاضطراب الإقليمي من خلال ما يمكن وصفه بـ"صفقة سياسية كبرى" تهدف إلى إعادة التوازن الإقليمي يكون عناصرها كلاًّ من السعودية ومصر وتركيا وروسيا، بحيث تمثل الأطراف الثلاثة الأولى القوى الرئيسية في المنطقة بينما يمثل العنصر الروسي الظهير الإيراني الذي قد يعرضه للانكشاف. ويمكن استشراف الخطوط العامة لمثل هذه الصفقة كما يلي:
1- صفقة سعودية – روسية تقوم على التفاهمات الأساسية بين البلدين بدءا من لقاء الرئيس بوتين ورئيس الاستخبارات السعودي الأسبق الأمير بندر بن سلطان، ثم لاحقا مع ولي ولي العهد الأمير محمد بن سلمان. روسيا تسعى إلى تثبيت قدمها في المنطقة وزيادة نسبة الاستثمار فيها وبيع مزيد من منتجاتها العسكرية إضافة إلى رفع سعر برميل النفط، في المقابل تسعى السعودية إلى الضغط على إيران ووقف تمددها ومعالجة الوضع السوري. ورغم أن الخلاف السعودي – الروسي الراهن كبير إلا أن مجالات التوصل لتفاهم كبيرة، وموقف روسيا الأخير من اليمن مؤشر على وجود نوافذ مفتوحة للتوصل لمثل هذه الصفقة.
2- صفقة مصرية – تركية تقوم على مبدأ القبول بدور إقليمي تركي مقابل التنازل عن دعم جماعة الإخوان، وهي صفقة يمكن الوصول لها في ظل خروج إردوغان من المشهد نسبيا وضعف حزبه الذي يفتقر إلى القيادة في حال خروجه. تركيا بحاجة إلى إعادة تموضعها الإقليمي ولإعادة دفع اقتصادها الذي بدأ يعاني تراجع معدلات نموه، في المقابل فإن مصر راغبة في معالجة ملف ليبيا إضافة إلى قطع الطريق سياسيا أمام جماعة الإخوان المدعومة من تركيا. نتائج الانتخابات التركية تفتح مجالا للتفاهم بين البلدين للوصول لصيغة ما.
إن الوصول لهذه "الصفقة الإقليمية الكبرى" ليس مستحيلا من الناحية النظرية، ولكنه سيتطلب وضوحا في المواقف الأساسية، فالسعودية تريد أن تبني مصالح مع روسيا ولا تقف ضدها، ولكن هذا رهن بخطوة روسية أولى تأخذ موقفا إيجابيا في سورية. من جهة أخرى سيتطلب أي تفاهم مصري – تركي وضوحا في الرؤية التركية فيما يتعلق بالسياق الإقليمي الرئيسي القائم حاليا. ومع كل تحول في المنطقة؛ تزيد التحديات وتزيد معها الفرص.