طيلة حياتي وأنا أسمع عن آينشتاين، أعرف أنه أذكى إنسان في القرن العشرين، وأعرف أنه صاحب نظرية النسبية التي غيرت تاريخ العلم، وغيرت نظرة الإنسان لوجوده وغيرت طريقة فهمه للكون.
ولأني كجميع الناس اعتقدت أنه يجب علينا أن نحاول فهم العالم المحيط بنا بشكل أفضل، حاولت مرات عديدة أن أمتلك فكرة عما يعنيه ذلك، وعما اكتشفته النظرية النسبية، ولكن دون طائل. سألت أصدقاء من المختصين في العلوم المختلفة، فقالوا لي كلاماً مبهماً، زاد الغموض غموضاً، حاولت قراءة كتب تتحدث عن العلوم، لكني لم أستطع تجاوز الصفحة الأولى منها.
كل ما فهمته حتى الآن، أن آينشتاين مهم وذكي، وأن نظريته مهمة وذكية، وأنها في الحقيقة نظريتان لا واحدة، النسبية العامة والنسبية الخاصة، وفي النهاية قدّم لي الراحة النهائية صديق أثق بمعرفته، وقال لي: "لا تضيعي وقتك ولا تجهدي نفسك، فلن يفهم أحد النظريتين النسبيتين، سوى المختصين، فهي موجهة للعلماء فقط، ولكي يفهمها المرء بشكل جيد، فعليه أن يمتلك من العلوم الأساسية ما يعادل ستة عشر عاماً من الدراسة الجامعية في هذه العلوم الأساسية". طويت هذه الصفحة والتفت لأفهم أشياء أبسط بكثير عن هذا الكون، مثل أسعار الأشياء، والطقس المتوقع للأسبوع القادم، وكيفية عمل برنامج الموبايل الجديد، اشتعال حروب جديدة، وانطفاء حروب قديمة.
مع انطلاق الثورة السورية في آذار 2011 صار لدي ما يهمني فهمه، وصرت أتابع تفاصيل مظاهرة في مدينة ما، وأحاول فهم طبيعة أهل هذه المدينة، ثم أتابع ما فعله النظام وكيف واجه مظاهرتهم السلمية، أتابع أسماء الشهداء، وقصصهم.. حفظت الجغرافيا السورية، وحكايات الأمهات.
في مرحلة لاحقة صرت أتابع أسماء كتائب الجيش الحر، وأحاول فهم توجهاتها وأفعالها، ثم صرت أهتم بمتابعة مجريات السياسة ومواقف الدول، صارت تصريحات لافروف وكيري وأوغلو وظريف والإبراهيمي وعنان ودي ميستورا جزءاً من صباحي.
كنت أحاول أن أرسم صورة لما يجري في بلدي، وأطلّ على التفاصيل الميدانية كما على المواقف الدولية والإقليمية، كنت -كجميع الناس- أحاول فهم العالم المحيط بي وانعكاسه علي وعلى حياتي وحياة أهلي وبلدي.
دخلت في مرحلة اعتقدت فيها أنني بدأت أمتلك نظرية وأفهم تفاصيلها وتشعباتها، وهنا بدأت القصة تتعقد شيئاً فشيئاً، وصرت أعرف أنني حين أسمع تصريحاً لمسؤول إيراني أو روسي يؤكد على الحل السياسي، فهذا لا يعني أبداً أن الخبر التالي لن يكون عن طائرة تلقي ببراميل متفجرة فوق قرية قصية في الشمال، أو عن حملة اعتقالات جديدة في مدينة أخرى، وحين يتحدث عضو بارز في هذا الفصيل المعارض أو ذاك عن توحيد المعارضة، فهذا يعني أن صفحات الفيسبوك ستكون في اليوم التالي عبارة عن حفلة شتائم متبادلة بين المعارضين.
بدأت الكتائب تختلط وأسماؤها تتغير، وصرت أسمع وأقرأ عن أن الفصيل الفلاني اغتال قائد الفصيل العلاني، وأن قائد الجبهة الفلانية في الجيش الحر يتهم لواءً يتبع لجبهته بأنهم لصوص ومرتزقة، ثم أشاهد صوراً لجثث شهداء من الثوار والمعارضين لم يقتلهم النظام، وإنما ثوار ومعارضون آخرون، صرت أشارك في حملات التضامن لإطلاق سراح مناضلين اعتقلهم مناضلون آخرون.
صرت أقرأ العبارات الغريبة التي تميز بين ثوار وبين محسوبين على الثورة، وصار الكل يتهم الكل بأنه محسوب على الثورة وليس جزءاً منها، صارت الخرائط تتغير كل يوم، ومواقف الدول تتجاوز حدود فهمي البسيط.
أقوال الأميركان وأفعالهم أمران مختلفان، الروس والإيرانيون يتحدثون عن سورية فيما تسير ملفاتهم الأخرى (أوكرانيا، الملف النووي...) بطريق مختلف تماماً، أضعت الخارطة، وحاولت أن أتلمس طريقي من جديد، ووجدت نفسي أعود للمربع الأول، وأحاول فهم النسبية، عدت لصديقي الذي أثق بمعرفته، فكرر علي النصيحة، وقال: "الأمر معقد جدا وفيه مليون تفصيل، أنصحك أن لا تضيعي وقتك في محاولة فهمها، اصنعي سورية التي تريدين وافهميها كما تشاءين".
هذا ما سأفعل اعتباراً من اليوم، فما أنا متيقنة منه أن هناك مليون أمّ ثكلى في سورية، أبناؤهن في القبر أو في أقبية التعذيب، شهداء أو مشاريع شهداء، هؤلاء هنّ المعرفة التي احتاجها، وهنّ القضية التي تستحق الاهتمام.
تلك سورية العامة التي تشبه إينشتاين، وهذه سورية الخاصة التي تشبهني.