أنتج مركز الملك عبدالعزيز للحوار الوطني مؤخرا فيلما قصيرا بعنوان "القاتل الخفي". الفيلم انتشر في مواقع التواصل الاجتماعية وحصل على معدلات رؤية معقولة. فكرة المقطع تقوم على أن هناك قاتلا خفيا يقوم بتدمير الأفراد والمجتمعات، قاتلا قضى على منجزات الإنسانية وأعاد كثيرا من المجتمعات إلى نقاط البداية أو إلى ما قبل هذه النقاط. ينتقل بعد ذلك المقطع إلى فكرة مهمة جدا تربط المتابع مباشرة بما يقال. هذا القاتل الخفي ليس وحشا أجنبيا أو عدوا خارجيا، بل هو منّا وفينا. المقطع هنا يعود بالتفكير والرؤية إلى الذات، إلى المجتمع الذي أنتمي له وإلى الأفراد الذين أعرفهم وأتعامل معهم يوميا، إلى نفسي ذاتها. بهذه النقلة يرفع المقطع مستوى التوتر في المشهد. الصورة تصبح أن هناك قاتلا خفيا وأن هذا القاتل الخفي يمكن أن يكون أنا. للتأكد من براءة الذات من عدمها يطلب المقطع من الفرد أن يعود إلى نفسه أن يسائلها ويفكر في أفكارها ومعتقداتها. المقطع على هذه اللحظة يضع المشاهد في حالة ترقب. كل هذه الصورة الدرامية يفترض أن تحيل على قيمة جوهرية وأساسية ومهمة في حياة كل إنسان وإلا فإن المشاهد سيعتقد أن كل هذه المقدمة ليست سوى دعاية ومحاولة إعلامية للتأثير. فمن هو هذا القاتل الخفي؟
لا يتأخر الجواب بأنه "أنت وأنا أو أي إنسان يتخلى عن قيمة التعايش". القيمة التي تتم الإحالة لها هي قيمة التعايش مع المختلف. نار الكراهية والإقصاء هي المقابل للتعايش في المقطع، وهي التي النار التي تحيي وتوقظ القاتل الخفي في داخل كل إنسان. البديل عن التعايش بحسب المقطع هو الحرب. حرب لا تنتهي، لا ينتصر فيها إلا الموت. في الخاتمة يطلب المقطع من الإنسان مراجعة موقفه من الاختلاف وعن الضريبة التي يمكن أن ندفعها جميعا إذا لم يكن التعايش قيمة أساسية في حياة الجميع.
برأيي أن المقطع وضع يده على إحدى أهم القضايا التي يواجهها المجتمع السعودي اليوم. القاتل الخفي لم يعد خفيا، بل ظهر وقام بأعماله الإجرامية ورأينا جميعا الآثار التي قاد المجتمع بكامله لها. قيمة التعايش قيمة جوهرية لأي مجتمع كشرط لحياته ونموه وازدهاره. التعايش مرتبط تماما بالاختلاف لأنه يسهل على الإنسان أن يعيش مع من يشبهونه ويتفقون معه، ولكن يصعب عليه إذا لم تكن قيمة التعايش جزءا أصيلا من تربيته وتفكيره أن يعيش مع من يختلفون معه. المجتمعات اليوم في طريق مستمرة لمزيد من التنوع والاختلاف والتعدد. الانفجار الهائل في وسائل التواصل جعل من التنوع الطبيعي في أي جماعة بشرية يظهر بوضوح ويعبّر عن نفسه بطرق متعددة ومختلفة. هذا الواقع يرفع من أهمية قيمة التعايش. لم نعد نحتاج فقط إلى التعايش بل نحتاج لمزيد من التعايش باستمرار وفي كل يوم. التعايش هنا قيمة تتطلب استعدادات فكرية ونفسية عند الأفراد مرتبطة بتربيتهم قبل كل شيء. المتعايش بالضرورة متسامح، بمعنى أنه تخلى عن الفكرة القاتلة: يجب ألا أسمح بما يختلف مع أفكاري ومواقفي. التسامح هذا مبني على فكرة الشراكة في المجتمع والمؤسسات والوطن بكامله.
نلاحظ اليوم مع احتدام الصراع الطائفي أنه يصعب على غير المتسامح أن يتخيل أن خصمه الطائفي مواطن يشاركه الوطن نفسه والانتماء نفسه. أكثر عبارة تعاكس السعودي السني المتطرف أن تذكر له أن الشيعي السعودي مواطن مثلك مثله، وأن هذه الأرض أرضه كما هي أرضك. في ذات الاتجاه تجد السعودي الشيعي المتطرف يضيق ذرعا بكونه شريكا للسنة في وطن واحد وأرض واحدة. رسالة المقطع يفترض ألا تفهم فقط أنها موجه للأفراد، بل هي كذلك موجهة للمسؤولين والأنظمة. باختصار نتساءل: بأي قدر تساعد مؤسساتنا التعليمية والإعلامية والسياسية والاجتماعية زرع قيم التعايش والتسامح والشراكة بين أفراد المجتمع؟ هذا سؤال جوهري يجب أن يؤخذ بعين الاعتبار. القاتل الخفي باختصار يمكن أن يوجد داخل قوانين تمت صياغتها بدون الوعي تجاه قيم التعايش، وتحت صخب انشغال الذات بنفسها وعجزها عن رؤية الآخر المخالف لها. يجب علينا مراجعة كل هذا للتأكد من إنصاف جميع فئات المجتمع بغض النظر عن الجنس والعرق والمذهب. نعلم جيدا أن قيم التعايش والتسامح لن يكون لها معنى دون أن تحصل المرأة على حقوقها الكاملة المساوية لحقوق الرجل، وأن يتم تطبيق قوانين حماية الطفل، وأن تتم رفع معدلات العدالة الاجتماعية وأن تتوقف حمى الصراع الطائفي والاقتتال الديني.
رسالة مركز الحوار الوطني مهمة جدا وتضع يدها على جرح مؤلم نشاهد نزيفه يوميا من خلال التفجيرات والأعمال الإرهابية المتكررة. هذا المقطع يعيدنا أيضا إلى مركز الملك عبدالعزيز للحوار الوطني نفسه، لأن الحوار هو البديل الأفضل للاقتتال والصراع. المركز مطالب اليوم أكثر من أي وقت سابق بالتصدي للقضايا الوطنية الأساسية وإعادة مياه الحوار بين جميع فئات المجتمع. دخول المركز في الإنتاج الفني عملية مهمة وتواصل مهم مع الناس والأمل أكبر في مزيد من مياه الحوار والتعايش لا دماء القتل والتدمير.