ليس بخاف أن الحركات الإسلامية المعاصرة على وجه العموم -أعني الحركات السنّيّة- تعود أوّل ما تعود إلى تراث العلاّمة أبي العباس أحمد بن عبدالسلام بن تيمية، يرحمه الله، تعود إلى أقواله، وتستند إلى أدلته، وترفعها في وجه الخصوم، وتستخدمها لتبرير ما تراه من قرارات وتصرفات.
ولا يمكن الادعاء بأن الحركات الإسلامية جميعها تؤمن بالعنف وسيلة للتغيير، فهي طيف واسع ممتدّ، ابتداء من المشاركة السياسية عن طريق الانتخابات والبرلمانات وصناديق الاقتراع، وانتهاء بالقنبلة والرصاصة، أو الذبح وحزّ الرؤوس.
الأمر اللافت في تلك الأطياف كلها أنها جميعا تستند إلى مقولات ابن تيمية، بل هذا الأستاذ راشد الغنوشي -وهو معدود في مستنيري قادة الحركة الإسلامية المعاصرة- يصرّح في رسالته عن "القدر في فكر ابن تيمية" أن ابن تيمية هو "أبوالصحوة الإسلامية"؛ فطائفة تستدل بما استدل به ابن تيمية حول نبي الله يوسف إذ أخذ أخاه في دين الملك لما يترتب على هذا من مصلحة، وإن كان هذا تحت دين غير دين الحق، وطائفة أخرى تستدل بابن تيمية في قتال "الطائفة الممتنعة"، وهي كل طائفة لها شوكة تمتنع من شعيرة من شعائر الإسلام الظاهرة المتواترة، فيجب قتالها حتى يكون الدين كله لله، إذ لا يصح أن يكون بعض الدين لله وبعضه لغير الله. ونصوص ابن تيمية في كلا الأمرين معروفة مشهورة، ربما نسوقها لاحقا بالتفصيل لمناسبة أخرى.
هذا تنظيم داعش يقاتل تنظيم النصرة، وكلاهما تنظيمان إرهابيان يدعيان الجهاد ما هما إلا امتداد للقاعدة! يقتتلان ويضلل أحدهما الآخر، بل يصل الأمر إلى الاتهام بالكفر والردة، وكلاهما يستند إلى ابن تيمية! وطرف آخر يدين الفريقين جميعا ويراهما جميعا ضالّين مستندا كذلك إلى المصدر نفسه، ألا وهو ابن تيمية.
هذا التكفير والتكفير المضاد والمستند إلى أقوال "ينتقيها" ويخرجها من سياقها كل فريق من أولئك الفرقاء المختلفين، ثم ما يتبع هذا من قتل وتمثيل بأبشع صورة، ونقل صورة لبعض من يعدّهم الناس كتّابا ومثقفين أن ابن تيمية -يرحمه الله- ما هو إلا "تكفيري"، منهجه هو التكفير على أي شيء، تكفير بغير ما يقتضي التكفير، فهل هذا الكلام صحيح؟
إن من المشكلات "المنهجية" في قراءة تراث أي عالم من علماء الأمة؛ انتقاء الأقوال دون استقراء تامّ لفهم منهج العالم فهما كليا، ولا يكون هذا إلا بجمع القول إلى نظيره، والرأي إلى شبيهه، والموازنة في تراثه بين الآراء المتضادة لو وجدت، للخروج بنظرية كلية تشرح منهجه إما مطابقة إن أمكن، أو مقاربة.
ثم بعد هذا يُنظر، أتفرّد هذا العالم بشيء لم يقله غيره من العلماء ومن سائر الطوائف؟ أم أن هناك من قال بهذا القول غيره؟ فإذا كان القول الذي قال به قولا سبقه به غيره من الأئمة فليس من الإنصاف أن يشاع أنه هو لا غيره مصدر هذا القول.
لقد بلغت فتاوى ابن تيمية ما يقارب الأربعين مجلدا، دع عنك كتبه الأخرى الشهيرة من مثل (درء تعارض العقل والنقل)، و(منهاج السنة النبوية)، و(بيان تلبيس الجهمية)، والتي تعد مراجع مهمة لا في الفقه والشريعة وأصول الدين فقط، بل في الفلسفة أيضا، وهذا ما يجهله الكثيرون عن ابن تيمية، يرحمه الله، أبرز نقّاد المنطق الصوري في التراث الإسلامي، وهو ما لا يعرفه كثيرون من قادة الحركة الإسلامية -إن لم يكن كلهم- وكثير من أبناء الحركات الإسلامية، إن لم يكن أكثرهم، وإن قرؤوها قلّ فيهم من يفهمها، فضلا عن الكثير من المثقفين ممن لا ينتمي إلى الحركات الإسلامية، الذين لم يعرفوا ابن تيمية إلا شيخا حنبليا، له -في أصول الدين- موقف سلبي من التأويل، وموقف حادّ -في الجملة- من الطوائف الأخرى؛ كالمعتزلة والأشاعرة والشيعة، وبعض المتصوّفة.
لا يدركون أن هذا الشيخ الحنبلي التابع لمدرسة أهل الحديث؛ قرأ فلسفة عصره قراءة مستوعبة، وهضمها هضما، وفقهها أبلغ ما يكون الفقه، وتناول أقاويل الفلاسفة وناقشها كفيلسوف يعرف موارد الأمور ومصادرها؛ فرأسه برأس أفلاطون وأرسطو وابن سينا والفارابي وابن رشد وأبي البركات البغدادي والغزالي والفخر الرازي. فهل يفهم "الدواعش" حزازو الرؤوس الذباحون أي مصطلح فلسفي أو منطقي مما هضمه ابن تيمية وناقشه؟
لا يدرك عامة أبناء الحركات الإسلامية من ابن تيمية هذا العمق، كما لا يدركها خصومهم، وما أدركوه من كلام ابن تيمية لم يأخذوه باستقراء تام. أو حتى شبه تام.
ولعلنا في مقالات مقبلة نسلط الضوء على بعض ما يُرمى به هذا العالم الجليل من أوصاف لا تنمّ إلا عن جهل به وبتراثه، أو عن انتقاء عجِل لا يليق بطالبي الحقائق.