حاول مايكل والزر في كتابه المعنون بـThe Paradox of Liberation أي مفارقة التحرر، وهو أستاذ العلوم الاجتماعية في معهد الدراسات المتقدمة في برينستون، فهم العلاقة بين فقدان الدينامية لحركات التحرر الوطنية العلمانية في مرحلة ما بعد الحرب وعودة الدين بصورة حديثة مناهضة للثورة في الدول القومية الناشئة من هذه الثورات. استعرض مايكل في هذا الكتاب ثلاثة أمثلة للتحرر الوطني في كل من: الجزائر والهند والأراضي المحتلة في فلسطين. يشير مايكل إلى الحالة الهندية، الجزائرية، واليهودية في نظر مهندسي حركات التحرر الوطني، ويعتقد أن المؤسسات الدينية التقليدية تلعب دور الوصي على هذه الحياة التي يمكن أن تستوعب الهيمنة وتعيق صحوة الضمير السياسي. هذه المؤسسات التي تستنكر الظلم والعبودية، تشجع في الوقت نفسه على عدم ممارسة النشاط السياسي، والانكفاء على القيم الأسرية أو المجتمعية، والقبول الخانع للسلطة.
يوجد تداخل بين المطالبات الوطنية والاستناد إلى مجتمع ديني. قد لا تولد ثورة من دون وجود درجة معينة من التشابك بين المشاعر الدينية والوطنية القادرة على تعبئة وتوجيه الطاقات الاجتماعية. كانت الماركسية تعتقد أنه باستطاعة أي ثورة حشد الطاقات الاجتماعية نيابة عن الصراع الطبقي الدولي. لم تكن الوطنية العلمانية تتطلع إلى حكم طائفي وثيوقراطي، الأمر الذي أدى إلى الانتماء الديني كمعيار للمواطنة الكاملة، وحصر العمل الوطني في مجال العقلانية السياسية التي تحددها مصالح الدولة القومية، مما يعني القدرة على التوافق والتفاوض.
سعت حركات التحرر العلمانية إلى تشكيل الدولة القومية الديموقراطية والسيادية، على قدم المساواة مع الدول الأخرى في مجتمع الأمم. من وجهة نظر مايكل، لم تتضمن العلاقة بين الثورة العلمانية والثورة المضادة الدينية، المشروع الوطني العلماني. قد يلعب انعدام التفاوض مع التقاليد دورا في تحليل اليقظة الدينية، كما يعد استبعاد الدين والتقاليد في المجالات السياسية عاملا حاسما في شرح تسييس الأوساط الإسلامية والنجاح الانتخابي للجبهة الإسلامية للإنقاذ في 1980 و1990، والذي أخفق في سياسة تطوير النظام الجزائري، وأسس للتسلط العسكري. يمكن للمرء أيضا أن يأخذ ملاحظات مايكل على الميليشيات المتشددة للمستوطنين اليهود في فلسطين، والتي يعتقد أنها لعبت دورا كبيرا في تقييد السياسة الإسرائيلية بشأن مسألة الأراضي المحتلة بعد هزيمة 1967.
لتوضيح هذا التناقض، يركز مايكل على المثال اليهودي ويشدد على البعد العلماني للصهيونية، كما يعرض انتقادات لاذعة لقنواتها الأيديولوجية المختلفة تجاه أساليب الحياة التقليدية ليهود أوروبا التي ينظر إليها كما الكثير من مظاهر ثقافة الطاعة المستعبدة وعقيدة الخلاص المنتظرة. تطمح الصهيونية إلى ثورة كلية للحياة اليهودية، ثورة ضد شتات اليهود في العالم. في الأراضي الفلسطينية المحتلة والجزائر، كان الانتقال من التحرر الوطني إلى الصحوة الدينية دون وجود شخصية الوساطة كغاندي. في جميع هذه البلدان الثلاثة بقي تأثير الدين قويا في الحياة اليومية خلال سنوات التحرير وتداعياتها. لكن تصبح هذه المقارنات التي تحدث عنها الفيلسوف السياسي مضللة بمجرد طرح المثال الصهيوني. في الهند والجزائر كانت هناك حركات تحرر حقيقية شنتها الدول الأصلية للتخلص من الأجنبي المستبد. غير أن وضع إسرائيل كمثال على التحرر الوطني عزز الكثير من سوء الفهم. هناك افتراض أساسي بأن الحركة الصهيونية "حركة تحرر وطني". كان اليهود مبعثرين في جميع أنحاء العالم عندما انطلقت الحركة الصهيونية التي يعتمد معظم قادتها على مطالبات كتابهم المقدس بالعودة إلى فلسطين. كما اعتمد الصهاينة في دعم شرعيتهم على مستعمر بريطاني لتنفيذ جهودهم الرامية إلى إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين مع صدور وعد بلفور في 1917. بالنظر إلى هذه الخلفية، لا نستطيع تقبل رؤية والزر في "التحرير الوطني"، إن المصطلح الأقرب في هذا المثال هو "نزع الملكية" التي يعانيها غالبية السكان الأصليين العرب في سياق حيازة إسرائيل للدولة. يرى ريتشارد فولك، أستاذ القانون الدولي في جامعة برينستون، أن هذا الكتاب المختلف نوعا ما، طور الرؤية العامة للثورات الدينية المضادة مقابل حركات التحرر الوطنية العلمانية، لكنه أثار الجدل عندما أدرج إسرائيل كقضية رئيسية، الأمر الذي ينطوي على تبييض إجرام إسرائيل.
لاحظنا بعد ثورات الربيع العربي أن حكومات إسلامية قد أمسكت بزمام الحكم في مصر وتونس، وكانت ميليشيات إسلامية قد بدأت تسيطر على ليبيا التي تحررت من نظام معمر القذافي، كما تحولت الثورة السورية العلمانية إلى تمرد يقوده تنظيم (داعش)، وظهر حزب أنصار الله -الحوثيون- في اليمن الذي يستند إلى مرجعية دينية شيعية. فهل نجحت الأحزاب الدينية فيما فشل العلمانيون في تحقيقه؟ ربما يحتاج العلمانيون إلى التعامل مع تقاليد المجتمع واحترام معتقداتهم الدينية والتخفيف كذلك من غطرستهم اليسارية.
ما إنجازات التجمعات العلمانية في الوطن العربي خلال القرن العشرين؟ طيلة ما يقارب ثلاثين سنة مضت، لم تقدم الأحزاب العلمانية العربية رؤية مستقبلية ناجحة لأوطانها، فضلا عن فشلها الذريع في تحقيق الديموقراطية وحرية الرأي والتقدم التقني ورفاهية الشعوب وحقوق الإنسان. كما لم تملك هذه الأحزاب سوى القليل مما يمكنها تقديمه في مجال الحوافز المالية، لذا يراها الجمهور هرمة وتعبة. في حين سعت الأحزاب الدينية إلى توفير الخدمات الاجتماعية والمنافع العامة. وأشاعت الثقة على مستوى القواعد الشعبية عبر استخدام الجمعيات الخيرية وتأسيس بنى تنظيمية قوية.