حول المدارس أسوار، حول المستشفيات أسوار، حول الحدائق أسوار، حول المساكن الفارهة أسوار، حول الدوائر الحكومية أسوار، أسوار من خلفها أسوار، فمن أين داهمتنا هذه الأسوار وأباؤنا كانوا يعيشون رحابة المساحات؟ من أين والسماء حدود أهل الصحاري سكان الخِيام؟ قطاع الطرق كانوا ينتشرون في الطرقات، ورغم خوف الناس حينها إلا أنهم ما عرفوا الأسوار، وحين عم الأمن والأمان وتحولنا لدولة القانون تمددت من حولنا الأسوار وارتفعت، فمم نخاف؟!
بناء الأسوار دليل صارخ على فشلنا في إقامة الجسور فيما بيننا، دليل على خوفنا من بعضنا البعض، دليل على أننا لا نثق كثيراً في بعضنا البعض، وأن نلجأ للأسوار لكي تحمينا فنحن نلجأ لأسرع الحلول وأكثرها فشلاً، فمآلات الأسوار أن تسقط، ويوماً ما ستتهدم الجدران لنتعرى، سنكتشف بأننا حين بدأنا في بناء الأسوار قد سمحنا لخوفنا أن ينمو ويتضخم، حولناه من وهم إلى حقيقة، وبدوره أخذ يُقطِع أوصال المدينة إلى أن خنقنا.
إنه إن كان عذر رب البيت حين يبني الأسوار حول منزله هو منع أعين المتطفلين، فما عذر المسؤولين في التعليم والصحة في أن يبنوا الأسوار حول المدارس والمستشفيات؟ ما عذر البلديات في أن تبني الأسوار حول الحدائق والمنتزهات؟ ما عذر كل مؤسسة حين تختبئ وتخبئ نفسها خلف الأسوار، ولم الأسوار؟ مم يخاف هؤلاء؟! أم أنهم جميعاً يطبقون على كل مبنى ما يطبقونه على منازلهم؟ أم أنهم متلبسون بذات العقلية التي ما عادت تؤمن بحل آخر سوى بناء الأسوار؟ العقلية التي ترى أن الحيطة والحذر يستدعيان الاختباء!
لقد سافر الكثير منا إلى مختلف البلدان، فما وجدنا في البلاد التي نزورها أي وجود للأسوار إلا إن كانت للزينة أو حول السجون، ما وجدنا أسواراً حول المدارس ولا المستشفيات ولا الحدائق، ما وجدنا أسواراً حول البيوت الفارهة أو الدوائر الحكومية، ما وجدنا زجاجاً منثوراً فوق الأسوار لزيادة الحذر! سافرنا فوجدنا القصور متاحف مفتوحة للراغبين، والحدائق الخضراء بلا حواجز من حديدٍ مسنن، وجدنا ساحات شاسعة للعب والغناء بلا خوف أو توجس، وجدنا ملاعب في الهواء الطلق، أفلا يحق لنا أن نتساءل إذاً: لما في هذا الوطن تزاحمنا الأسوار وتفصل بيننا أكثر وأكثر؟!
إن الأسوار ليست سوى نتيجة ثقافة الخوف والتخوف والاحتراز المبالغ فيه، و"كما تكونون تكن مبانيكم" فمن يخاف من الآخرين سيبني حوله الكثير من الأسوار، فإن زاد خوفه زاد السور ارتفاعاً، فإذا ارتعب وأصابه الهلع نثر فوق السور قطعاً من زجاجٍ مكسور! أي أن الأسوار هي منتج ثقافي، بدلالة أننا حين نسافر لا نحشر ملابسنا فقط داخل الحقائب إنما نحشر أيضاً الكثير من الأسوار، لهذا ما إن يصادف أحدنا ابن بلده في تلك البلاد إلا ويبتعد الاثنان، لعلم الطرفين بوجود أسوار تحيط بكليهما محذرة من الاقتراب!
إننا متلبسون بثقافة الحجب والمنع، الحيطة والحذر، و"وش فيك تناظر؟!"، متلبسون بثقافة الخوف من شيء ما، وعلى شيء ما، لا يجب الاقتراب منه أبداً، ذلك الشيء هو كل شيء بلا استثناء، هذا ما تبوح به الأسوار دائماً، أن الخوف رديف ملازم للأسوار، الخوف ولا شيء آخر سوى الخوف، إن الأسوار التي نراها حول المباني هي ابنة أسوار غير مرئية تشكلت في عقلية المجتمع، ابنة أسوار نفسية تشكلت في الفرد حتى جعلته إنساناً متأزماً.
الأسوار حول المباني هي نتاج طبيعي لثقافة الفصل والمنع والحجب التي فاضت من عقولنا إلى مبانينا وشوهت معالم المدن، هنالك شكوى غير منطوقة إنما تحز في النفس من هذه الثقافة التي تعتنق الفصل، لا بين الجنسين فقط، إنما بين الإنسان وبيئته، بين الإنسان ومجتمعه، بين الإنسان ونفسه، إلى أن أصبحنا نعيش حالة خصام بين الجميع والجميع بلا سبب سوى أننا نخاف بلا سبب.
فمتى تُهدم الأسوار؟ متى يتخلص الطالب من الشعور بأنه حبيس المدرسة؟ متى يتخلص أصحاب القصور من أسوارهم ويجعلون الرفاهية متاحة للناظرين؟ متى تتخلص المؤسسات الحكومية من الأسوار وكأن هنالك شيئاً ما لا يجب على أحد أن يراه أبداً؟ متى يلتقي السعودي بابن وطنه في الخارج ولا يبتعدان عن بعضهما بعضا؟ متى ندرك أن هنالك ألف ألف حل آخر بعيداً عن الأسوار، كأن تبنى جسور التواصل والتعايش بين الجميع؟