لا نستطيع ولا نريد أن نعرف تفاصيل كل يوم من حرب فيتنام، ولا يمكن لكل واحد منّا أن يعرف كم صاروخا وكم قنبلة وكم رصاصة أطلقها الأميركان في هذا البلد الصغير، وكم قتيلا وكم جريحا، ولكن يمكن لنا -كبشرـ أن نتلقى صورة لطفلة في العاشرة تركض عارية تماما بين هاربين آخرين فيما دخان القنابل يتصاعد خلفهم، ونستطيع أن نلتقط كم البكاء والذعر الذي يحمله وجه هذه الطفلة؛ لنختصر حرب فيتنام بكاملها، ونحفظها في ذاكرتنا كرمز يكثف سيرة الحرب.

تلك الصورة بالفعل صارت رمزا للحرب، ويقول خبراء الإعلام إنها بشكل أو بآخر أسهمت في إنهاء الحرب ذاتها، لما تركته من أثر في الرأي العام الأميركي، بحيث دفعته لتشكيل مجموعات ضغط وتنظيم احتجاجات، وتفعيل أنشطة سياسية متنوعة تهدف إلى إنهاء الحرب.

صورة شهيرة أخرى تحولت إلى رمز للمجاعة في أفريقيا، وهي تلك التي التقطها مصور أميركي في عام 1993 لطفل سوداني نحيل جدا يقف بجانبه عقاب -أو نسر أفريقي- متربصا بانتظار موته الوشيك (المصور هو كيفين كارتر والصورة حاصلة على جائزة بولتيزر، والمصور انتحر في سن الـ33، ويقال إن انتحاره كان بسبب المآسي التي شهدها خلال عمله لا سيما في أفريقيا).

تمكنت هذه الصورة من تحريك الرأي العام العالمي، ودفع حكومات العالم للاهتمام بالمجاعة في أفريقيا، وتسببت في إطلاق عشرات البرامج والمشروعات الإغاثية والإنسانية والتنموية.

الصورة الثالثة التي تحولت إلى رمز في وقتها، هي صورة الطفل الفلسطيني الذي يقف في مواجهة دبابة إسرائيلية وحجره في يده المرفوعة، انتشرت هذه الصورة وأثّرت في العالم وأسهمت في تشكيل موقف مختلف للرأي العام العالمي من الانتفاضة الفلسطينية وقتها.

هذه الأمثلة الثلاثة وعشرات غيرها، نشرت ملايين المرات في وسائل الإعلام المختلفة وتداولها الناس كأيقونات، وامتلكت سلطة الرمز في زمنها وفي القضية التي تمثلها. وأحدثت تغييرا، من حيث حَكَت الضمير الإنساني، ودفعته إلى الفعل المؤثر.

بتأمل ما يجري في منطقتنا، لا سيما في البلدان التي تحولت فيها تداعيات الربيع العربي إلى مآسٍ إنسانية، وهي سورية وليبيا، وبدرجة أقل اليمن، مع إضافة العراق الذي يشهد مآسي مشابهة منذ 12 عاما، وبتلمس قلة الاهتمام العالمي، وتجاهل الرأي العام العالمي للجانب الإنساني مما يجري، لا بد أن نفكر ونطرح على أنفسنا الأسئلة حول أسباب ذلك.

هل تبلد الإحساس لدى البشر إلى هذه الدرجة؟ هل يأس العالم منّا ومن منطقتنا؟ هل فشلنا في إيصال قضايانا إلى العالم؟ هل تنقصنا الرموز التي تستطيع إحداث أثر يثير الاهتمام؟

لا أظن أن الضمير البشري يستطيع أن يصمت لوقت طويل أمام مأساة إنسانية، وبرغم كل شيء، فما زال في الإنسان بشكل عام، وفي كل إنسان بشكل خاص بقعة مضيئة تحركها الأخلاق، وإن صمت الناس لوقت ما فهم لن يصمتوا إلى الأبد، ولا بد في لحظة ما من أن ينتبه الناس إلى إخوتهم في الإنسانية، ويتحرك حسهم بالمسؤولية تجاههم. ولا أنه تنقصنا الرموز، خصوصا في زمن التكنولوجيا التي وضعت كاميرا في يد كل إنسان، وأتاحت فرصة النشر والتداول على أوسع نطاق، حتى دون الاضطرار إلى المرور عبر وسائل الإعلام، فبإمكان أي شخص الآن أن يلتقط بكاميرا هاتفه الجوال صورة لحدث، وينشر هذه الصورة على صفحته الخاصة في أي موقع من مواقع التواصل الاجتماعي، ويمكن خلال 24 ساعة أن تجوب هذه الصورة العالم، وأن يتناقلها الناس ويعيدون نشرها.

وفعليا فهناك صور التقطها هواة من سورية "ومن مصر خلال أسابيع ثورتها الثلاثة" تناقلها عشرات الملايين عبر العالم، أثارت الاهتمام لكنها لم تتحول إلى رموز تحدث التغيير.

ومن هذه الصور ما هو أقسى وأبلغ من كل الصور التاريخية الشهيرة والمرتبطة بأماكن أخرى من العالم. وحجم الرموز التي أنتجناها يدفع العقل البشري للارتباك، وربما عدم التصديق، ففي سورية على سبيل المثال، لدينا آلاف البنات الصغيرات اللواتي ركضن تحت القصف، عاريات ومكسيات، وملايين الأطفال السوريين الذين تتربص بهم كل عقبان الأرض، وآلاف الأطفال والشباب الذين وقفوا وحيدين أمام الدبابة، لدينا الكثير مما هو أقسى وأشد أدهى، لكنها لم تحدث الأثر المطلوب. إنها تخمة الرموز إذاً، وهي لا تنتج سوى تخمة الموت.