أثار قرار وزير التعليم معالي الدكتور عزام الدخيل حول فتح فصول لتحفيظ القرآن الكريم في المدارس العامة ردود فعل متباينة ما بين مؤيدين يرون أن هذا القرار هو أحد أهم الأهداف التربوية في السعودية؛ كون غالبية الشعب محافظا أو متدينا، وهذا يعزز من القيمة الدينية لدى المجتمع، وبين آخرين منتقدين يرون أن القرار يصب في اتجاه العودة إلى حضن التيارات الدينية التي بدأت بالانحسار قليلا بعد سنوات من التشدد الديني. وما بين المؤيدين والمنتقدين عاد الصراع بين التيارات الدينية والليبرالية -كعادة كثير من القرارات- ليحتدم الجدل بين متهمين ومناصرين وضرب تحت الحزام -كالعادة أيضا- بوصفين طالما كانت ساحات النقاشات العامة، والمنتديات، ومواقع التواصل الاجتماعي حافلة بهما من قبيل اتهامات التشدد من قبل التيار الليبرالي للديني، أو اتهامات الانفلات من قبل الديني لليبرالي، وفتح هاشتاق "وسم" تويتري بهذا الخصوص: (#عزام_يتخبط) ليحتدم الصراع أكثر، في حين أن القرار لم يكن إلزاميا، بل هو راجع إلى اختيار أولياء الأمور في الوقت الذي تغيب فيه ذاتية واختيارية الطالب نهائيا عن هذا الجدل.

هناك فئة ثالثة نظرت إلى القرار بوصفه قرارا يسحب البساط من تحت حلقات تحفيظ القرآن في المساجد، بحيث تكون هناك رقابة على المدرسين في المدارس أكثر من المساجد، وهذا التفسير لا أجد له وجاهة كون المجالين مختلفين، إذ تتبع حلقات التحفيظ في المساجد لوزارة الشؤون الإسلامية في حين تتبع فصول التحفيظ للتعليم، كما لم يشر أحد من المسؤولين لا من مسؤولي الحكومة ولا من مسؤولي الوزارات التنفيذية ولو إشارة بسيطة إلى نية في إيقاف الحلقات في المساجد، ولا أتصور أن ذلك ممكن على المستوى القريب كونه كان أحد أهم المرتكزات الدينية في هذا المجتمع وفي غيره، مما يعني صعوبة ذلك، ولم يكن هذا التفسير في تصوري إلا نوعا من الأمنيات التي ربما لن تتحقق لكونها خاضعة أصلا لرقابة الشؤون الإسلامية، وإن كانت لم تحقق الرقابة المطلوبة لصعوبة هذا الأمر.

فئة رابعة، رأت هذا القرار كنوع من تعزيز القيمة الشعبية للوزير، خاصة في ظل عدم وجود إصلاحات جذرية للتعليم في السعودية، وعدد حصص مادة القرآن في الفصول العامة تقارب الحصة يوميا، ولذلك لا داعي لتكثيف الحصص في تحفيظ القرآن، فهذا القرار سوف يكون على حساب مواد أخرى، لكنني أرى أن الوزير ليس بحاجة إلى شعبية، فشعبيته متحققة منذ اليوم الأول في تعيينه وزيرا، كونه رفع شعار العناية بالمعلم، مما يدحض فكرة تعزيز الشعبية.

القرار كان مفاجئا وسريعا؛ مما يمكن أن يربك العملية التعليمية في غالبية المدارس الحكومية؛ كونها تحتاج ميزانيات أكثر وتخفيض أنصبة معلمين وزيادتها في فصول تحفيظ القرآن، كما يرفع الاحتياج إلى معلمين جدد لا بد على الوزارة أن تقوم بتعيينهم خلال الأسابيع القليلة المقبلة؛ ليحد من العجز داخل غالبية المدارس فكيف ستفعل الوزارة بذلك؟ يبدو أنه لم يدرس بشكل دقيق لصعوبة تنفيذاته الإجرائية في وقت قصير، فإن كان هناك من تخبط فهو في سرعة اتخاذ القرار الذي سوف يربك العملية التعليمية ككل، ولكنه أبدا ليس تخبطا فكريا، فالوزير لا يتخبط، وإنما يسير وفق رؤية محددة ومقصودة بغض النظر عن مدى صوابها أو خطئها عند بقية التيارات المحتدمة الجدل، وهذه الرؤية هي ما يحاول هذا المقال قراءتها من غير الجزم بصحة هذه القراءة.

شخصيا أعتبر أن قراءة القرآن الكريم من الأمور التي يمكن أن تعين على تقويم ألسنة الطلاب في قراءة العربية، وتعطي ثراء لغويا وبلاغيا كبيرين متى ما دُرّس بطريقة غير تقليدية تمنح الطالب فرصة لاستكشاف الثراء الروحاني والبلاغي في القرآن، وأنا ممن درس في مدارس تحفيظ القرآن بمراحلها الثلاث، وأعي تماما ذلك الخطاب الديني الذي ترتكز عليه مثل هذه المدارس من ميل إلى السلفية، أو الصحوية والإخوانية، لكنها في المجمل لا تبتعد عن بقية مدارسنا في التعليم العام؛ لأن "الجو" السعودي في مجمله ديني ولن يزيد فتح فصول لتحفيظ القرآن إلا تأكيدا على ما هو مؤكد، وتأصيلا لما هو متأصل، وتجذيرا لما هو متجذر، والمخاوف من عودة التيارات الدينية إلى المدارس لا قيمة لها، لأن مدارسنا هي كذلك من قبل ومن بعد، ولن يزيد هذا القرار شيئا إلا في إرباك المدارس من ناحية الإجراءات الإدارية لا أكثر.

لكن لو وضعنا هذا القرار وفق السياق العام لما يحصل من تحولات إقليمية في غضون الأشهر القليلة الماضية يمكن أن يعطينا تفسيرا لهذا القرار المفاجئ. من المعروف أن التعليم في دول العالم كافة يخضع إلى السياسيات العليا في الدولة نفسها، لكنها تأخذ طابعا تربويا وتعليميا، والتحولات في المنطقة تفرض على السعودية إعادة تعزيز دورها الديني كما كان من قبل، خاصة في وجود منافسين جدد على الساحة من تيارات دينية تحاول احتكار إسلامية الدولة سواء من قبل المذهب السني كما تفعل داعش، أو المذهب الشيعي كما تفعل إيران والحكومة العراقية، وعلى هذا فإن تعزيز فكرة تحفيظ القرآن في التعليم العام هو تأكيد للهوية التعليمية التي تسير عليها هذه الدولة، ولذلك رأيت في قرار الوزير قصدية لتعزيز هذه الرؤية، فالسعودية دولة إسلامية في المقام الأول، وعلى هذا الأساس تحاول أن تعيد دورها الديني داخليا وخارجيا، لذا لا غرابة في أن تكون أحد أهم قرارات وزير التعليم هو تأكيد هوية هذه الدولة، والهوية الدينية العامة التي يمكن أن تتفق عليها المذاهب الإسلامية كلها هي الهوية القرآنية، كونه الجامع لكل هذه المذاهب، وهذا ما يجعل قرار فصول التحفيظ اختياريا أكثر منه قرارا إلزاميا، ولن تكون هناك مشكلة في وجود القرآن في المدارس. المشكلة فقط حينما تتحول مدارسنا إلى ساحات للصراع الفكري والتياري.

ما هو مهم بعد هذا القرار هو وضع آليات تعطي فرصة للتدبر القرآني وفق الأطر الحديثة في التعليم وانفتاح النص القرآني على عدد من القراءات والتأويلات التي تتفق مع اتساع الخطاب القرآني، وليس تحويل القرآن إلى صراع بين المتخاصمين أو بين المذاهب، فالفهم والقراءة الواعية والتطور الفكري أهم من الترديد.