استطرد أغلبنا طيلة الأيام الماضية في الحديث عن قضايا التحرش بالمرأة، وأن أنجع الطرق لردعه عند المدركين لخطورته هو سن تشريع يضع المتحرش وراء غياهب السجون، فضلا عن فضح اسمه وصورته -بسبب سوء- فعله أمام الأشهاد، وفي وسائل الإعلام.

موضوعي هنا ليس عن هذا النوع من التحرش، إنما هو عن نوع آخر مثله، أو حتى أشد منه في النتائج التي تخلفه، ألا وهو "التحرش الفكري".

التحرش الفكري وقبل عرض نماذج مختصرة عنه؛ أقول بداية إنه الأساس لكل أنواع البلايا التي يشتكي منها الفرد، أو التي تئن منها المجاميع "الألف واللام في (الأساس) غرضي منها الاستغراق، لا العهد، أو الجنس كما يعبر عن ذلك النحاة"، هناك تحرش فكري يمارسه صاحب النفوذ ضد غيره؛ فيمنعه من حقه في أن يتحدث برأيه العلمي، وإن كان رأيه رصينا، حبا منه في أن ينقاد الناس برأي واحد فقط، وأحيانا بحجة الخوف عليهم من مناقشة الحساب، وشدة العقاب.

لا أدري لماذا كل هذا الخوف المركَّب على الناس؟ ولماذا كل هذه الوصاية على عقولهم؟ ولماذا نجعل من الآراء المتنوعة طريقا للتحرش -الاستفزاز- بدلا من أن نجعلها بابا من أبواب الجمال؟ ولماذا كل هذا التعنت في الأمور التعبدية مثلا؟ ولماذا نحتج في كل صغيرة وكبيرة بأن الذرائع لا بد أن تسد، مع أنها لا بد وأن تفتح؟ يقول الإمام القرافي في كتابه المشهور (شرح تنقيح الفصول في اختصار المحصول في الأصول ص449): "الذريعة كما يجب سدها، يجب فتحها، وتكره وتندب وتباح؛ فإن الذريعة هي الوسيلة، فكما أنَّ وسيلة المحرم محرمة، فوسيلة الواجب واجبة؛ كالسعي للجمعة والحج".

في الحديث الصحيح يقول صلى الله عليه وسلم، وكواحد من أبرز أدلة معجزات النبوة: "إن الشيطان قد آيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب، ولكن في التحريش بينهم"، ومعناه أن الله تعالى أمَّن الناس من عبادة غيره، مع عدم الأمان من أن يكونوا فريسة للخصومات، والشحناء، والفتن، خاصة إذا لم يتفطنوا لأسبابها، ومن أهمها التحرشات الفكرية بينهم.

النص النبوي لا يفيد بأي حال من الأحوال الاستسلام للتحرشات الفكرية، بل إن الواجب هو مكافحة كل ما يفضي إليها، كشعور البعض بالغُصة من الخلافات الفقهية، وتضليل الآخرين، وتبديعهم، وتفسيقهم، لمجرد أنهم مالوا إلى رأي شرعي، لم يتم اعترافهم به؛ فمثلا من آراء الأحناف استحباب مسح العنق في الوضوء، ونقضه بخروج الدم اليسير، أو بالقهقهة، وأن ركبة الرجل من عورته، ووجوب صلاة الوتر، وانعقاد صلاة الجمعة بثلاثة، وعدم مشروعية صلاة الاستسقاء؛ وإنما فيه الدعاء.

ومن آراء المالكية تجويز قراءة الحائض القرآنَ دون مس، وشهرة كراهة قبض اليد في الصلاة. ومن آراء الشافعية انتقاض وضوء الزوج بمجرد مسه بشرة امرأته، والجهر بالبسملة في الصلاة الجهرية، وسنية الصلاة على النبي -صلى الله عليه وسلم- في التشهد الأول.

ومن آراء الحنابلة وجوب البسملة عند الوضوء، والمضمضة والاستنشاق فيه، ونقضه بأكل لحم الإبل قبله، ووجوب صلاة الجماعة للمكتوبات، وتأثير صلاة العيد على صلاة الجمعة، وسنية الجهر في صلاة الكسوف النهارية. إن مؤاذاة الناس بعدم استساغة تنوع الآراء الفقهية بينهم، نوع من أنواع التحريش، بل هو أردأ الأنواع، والمفتاح لغيره من التحرشات البغيضة.