بينما يمثل التعليم بمختلف قضاياه مادة للكتابة والتناولات الصحفية المتنوعة، فيما يتعلق بكثير من إجراءاته، بل وبما يقع من أخطاء، إلا أن كل ذلك ليس سوى دليل على أن التعليم في المملكة يشهد حالة من الإيمان المجمع عليه بضرورة أن يتطور سريعا وبشكل مؤسس، وعلى مختلف المستويات، الإدارية والميدانية.
وكل ذلك الحضور الآن الذي تحظى به وزارة التربية والتعليم في الأعمدة والمقالات اليومية إنما يمثل انعكاسا لما يحدث داخل الوزارة من حركة كبرى تعيشها الوزارة، وما ذلك إلا نوع من الترقب لما ستسفر عنه تلك الحركة من تطورات تمثل بإذن الله تلبية للطموح الوطني في التعليم.
كل ذلك يمكن جمعه تحت عنوان واحد على أنه صدى لما يحدث من تطوير، أو على الأقل من مشروعات تطويرية حتمية، عدا أن هناك مواجهة أخرى بدأت في واقع الأمر تجمع أسلحتها لمواجهة فكرة (التطوير) ودخولها للوزارة، وهي المواجهة الأكثر حدة، وفي ذات الوقت الأكثر التصاقا بتاريخ الممانعة الطويل ضد كل جديد، وهو تاريخ يعرفه السعوديون جيدا، وذكرياتهم معه لا تنتهي.
كل أفكار التطوير التي تعلن عنها الوزارة وخاصة على مستوى المناهج وعلى مستوى الإجراءات التقدمية، باتت مادة لممانعة يبدو أنها تجمع صفوفها الآن.
فكرة دمج الصفوف الأولية في مدارس التعليم الأهلي وقيام معلمات بتدريس الأطفال، تم استقبالها بحالة من الهياج المألوفة من قبل تيارات الممانعة، ومن خلال خطاب مألوف ومكرور وهو الخوف من المصير وقراءة ما يحدث على أنه بداية لإقرار الاختلاط وخطوة لا تحمد عقباها، وأدّت الكثير من الفعاليات والمواقف التطويرية التي قامت بها الوزارة إلى الكثير من المواجهات غير المنطقية ولا المبررة وتحولت مشاركة طفلتين أو أكثر في فعاليات سباق الفروسية إلى مشروع تغريبي قادم يستهدف بنات المسلمين – كما يعلق أحدهم–.
يرى كثيرون من المولعين بالممانعة والخائفون من كل ما يستجد أن التعليم يجب أن يظل حكرا على من يسمونهم (العلماء) ومع ما تحتاجه هذه المفردة من إعادة تعريف كونها تختصر العالم في صورة واحدة وجزئية تركز على الفقيه، مع ما يعيشه الفقه من جمود حوله إلى سلسلة من المحفوظات أفقدته القيمة الفعلية للعلم القائم على الحياة والاستمرار والتجدد والارتباط بالواقع، إلا أن استخدام هذه الكلمة بات سلاحا من أسلحة المواجهة، وذلك لما فيها من تفخيم وتهويل وإيحاء بالإلمام والقدرة والمكانة.
في بدايات التعليم السعودي، وحين كان الذين يحتلون المواقع القيادية فيه من الفقهاء، كان ذلك عائدا بالدرجة الأولى إلى ندرة الكوادر من المتعلمين خارج العلم الشرعي، إضافة إلى ما في وجودهم من طمأنة لهم خاصة أن بعضهم كان ممن حمل لواء الممانعة ضد التعليم، وضد تعليم البنات بشكل خاص.
لكن ما الذي يحتاجه التعليم الآن من الفقهاء؟ في الواقع ليس سوى أكثر من إسهام في الجوانب التي هي بحاجة إلى معارف فقهية وشرعية، في التعليم أو في وضع المناهج، أما الإدارة والرؤية ورسم السياسات التعليمية العليا فليس من الممكن ولا من المنطقي أن تكون من اختصاص الفقهاء، بل يجب أن تعتمد على رؤى تربوية وعلمية حديثة، فلقد بات التعليم الآن أساس البناء في كل نهضة، ولم يعد مجرد مساحة زمنية يومية لتعلم أمور الدين والفقه.
أحد الفقهاء، وصف في بيان له التربويين بالجهلة، حيث يقول عفا الله عنه: (وإننا نسمع في هذا الوقت أصواتاً تنعق بالمطالبة بتغيير المناهج التعليمية ونزعها من أيدي العلماء وجعلها بيد الجهلة المسمين بالتربويين، حتـى تصبـح المناهج الإسلاميـة اسماً بلا مسمى، وحتى يكـون الإسـلام إسلاماً علمانياً لا إسلاماً مُحمدياً، ومنهجاً لا يفرق بين الحق والباطل والهـدى والضلال)، وهنا يمكـن القبض على حالة الخوف المطلقة، فليس من العدل أولا وصف التربويين بالجهلة، ولا علاقة لما يقومون به في تحويل الإسلام إلى إسلام علماني، كما أن الإسلام ليس بهذه السهولة لأن يقوم من يغيره من كونه محمديا ليصبح علمانيا.
هذه الحدة ليست سوى دليل على أن المواجهة القادمة التي سيخوضها التعليم هي مواجهة مع التقليد والتشدد، بالتأكيد سوف تتجاوز ما ألفناه من ممانعة دائمة لكل ما يستجد، إلا أن التحدي الأبرز يتمثل في دعم الوزارة بما يخدم الرؤية الوطنية للتعليم.
المدارس الآن ليست كتاتيب على هيئة مبان حديثة، حتى تظل في أيدي الفقهاء، ولكنها دور للعلم والمعرفة والتنشئة والتفكير، ذلك التفكير الذي لو آمن به الفقهاء التقليديون، لكانوا مستحقين بالفعل لصفة العلماء.