يوم الجمعة الماضي غضب محرر "الوطن" من أمانة محافظة جدة. لأن الأمانة اتهمت "بعض" المواطنين بأنهم يعانون "تدنياً في الثقافة الحضرية"، ويجعلون بالتالي حياة البلدية أصعب ودورها في إبقاء شوارع جدة نظيفة أعقد!

بطبيعة الحال فإن بيان أمانة جدة المذكور لم يكن تعميمياً أبداً. لا أحد سيقر بأن الافتراش، ونبش الحاويات، والرمي العشوائي للنفايات ورمي مخلفات البناء في البرحات هي سلوكيات لصيقة بالمواطن السعودي. كما أن كل واحدة من هذه التهم يمكن تفنيدها ونسفها بشكل مستقل ليخرج المواطن من المسألة "زي الشعرة من العجين". وهنا بالضبط تكمن عقدة المقال. إلى أي حد المواطن بريء من تهم الأمانة؟ وإلى أي حد يسع الأمانة -وأي جهة تنفيذية خَدَمية أخرى- أن تلقي بعبء مسؤوليتها على الثقافة الحضرية المتدنية للمواطنين؟ أو على "البعض" منهم؟!

وهذه مسألة شائكة ولا يمكن البت فيها بسهولة. فالأخ المواطن سيذكّرك فوراً بأن البلدية مقصرة عن أداء مهامها. سيزعم بأنها لا توفر له حاويات قمامة كافية في المتنزهات والشوارع، وبأن الشوارع أصلاً حافلة بالمطبات والحفر ومخلفات عمليات الصيانة التي ينفذها مقاولو البلدية أنفسهم. وبأنها -البلدية الكريمة- لا توفر حاويات مخلفات البناء بسهولة. وبأن هناك "بلاوي" أخرى "متلتلة" يجدر بالأمانة أن تلتفت لها وتحلها لتوفر للمواطن بيئة صحية نظيفة قبل أن تطالبه بأن يحافظ عليها!

هذه وجهة نظر لا تخلو من وجاهة. لكنها وجهة نظر تجعل من المواطن ملاكاً طاهراً مثالياً.. ونحن كلنا نعرف أن الصورة ليست بهذه المثالية.

حين يسافر أحدنا للخارج.. لأوروبا والدول المتقدمة بالذات.. فإنه يعود بالقصص المدهشة عن الشعوب "المتحضرة" التي "تقف في الطابور" ولا ترمي الزبالة في الشارع وتبتسم لك مع أنك غريب في بلاد غريبة. هذه السلوكيات التي سيؤكد لك غير واحد أنها سلوكيات إسلامية وأن الغرب قد تعلمها منّا أصلاً هي غائبة عنا اليوم. بل إننا قد تبنينا عكسها. وفي كتابه (العرب وجهة نظر يابانية) يستطرد المؤلف الياباني (نوتوهارا) مندهشاً في وصف هذه الظاهرة: ظاهرة اعتداء العربي على الملكية العامة وكأنه ينتقم أو يثأر من أحد. وكأنه لا يستشعر أن كرسي الحديقة الذي يحطمه أو الجدار الذي يكتب عليه بالبخاخ هو في النهاية جزء من مدينته هو حيث يعيش ويعمل ويتنفس.

لماذا هذا الفرق بين المواطن العربي والمواطن غير العربي؟ لماذا لا يذكر أي من الإخوة والأخوات المبتعثين والمبتعثات أنهم شاهدوا مواطناً كندياً -مثلاً- يفتح نافذة سيارته ويلقي منها بقايا وجبته أو منديله الملوث بالمخاط؟ ولماذا هذا مشهد شائع في الشارع العربي؟

هناك إجابتان لسؤال الحضارة هذا.. الجواب الأول ينص على أن المواطن العربي هو متمرد على النظام بالوراثة. هناك جينات في خلاياه تدفعه دفعاً لأن يكون فوضوياً وغير نظيف ولا متحضرا.. مهما كان ثرياً أو فقيراً. وهذه نظرية سيرفضها الكثيرون بل وسيرفعون دعوى قضائية ضد صاحبها.. لو عرفوه.

الجواب الثاني يقول إن المواطن الأجنبي المتحضر قد صار كذلك "غصباً عنه" وبالقوة. وأن الحكومات والفلاسفة والمشرعين والمربين قد اشتغلوا على المسألة لسنين طويلة كي تظهر مجتمعات يتمتع فيها المواطن بحس ذاتي يمنعه من أن يتمرد على النظام.. ويسود فيها إطار أخلاقي يسمح لأي كان بأن ينكر على المخالف ويأطره على الحق أطراً. طبعاً فلهذه القاعدة استثناءات تشمل المجرمين المحترفين والقوادين وسواهم ممن تحفل بهم المنظومة الغربية أيضاً لكنهم لا يدخلون في نطاق تخصص أمانات المحافظات ووزارة الشؤون البلدية.. ولا يدخلون في مضمون هذا المقال.

المواطن الأجنبي يدفع ضرائب من جيبه لتصير الشوارع نظيفة ولتبنى حدائق وأرصفة في مخططه السكني. إنه ينتخب رئيس بلديته ومدير مدرسة ابنه ويستشعر أنه يسحق أعلى درجات الخدمة. كما أنه يتمتع بمظلة قضائية وتنفيذية تتيح له حق المساءلة والمحاسبة. هذه المنظومة أيضاً ستردعه وتعاقبه وفق "القانون" لو تجرأ هو وأخل به. إنها مسألة حقوق وواجبات واضحة وصريحة. وفي غياب أي منهما فسيظل السؤال متأرجحاً في الهواء: ننصر المواطن؟ أم أمانة محافظة جدة؟