من يتتبع الدور التركي في الشرق الأوسط، يجد أنه تنامى بعد تطورين مهمين ومتقاربين زمنيا، الأول خارجي وهو الغزو الأميركي للعراق وإسقاط نظام صدام وحزب البعث الحاكم، والتطور الآخر داخلي هو وصول حزب العدالة والتنمية الإسلامي إلى مقاليد السلطة في تركيا.
فبعد هذين التطورين في الشرق الأوسط تغيرت بوصلة السياسة التركية من الاتجاه شمالا إلى الاتجاه جنوبا، أو بعبارة أخرى، اتجهت إلى فرض نفسها كقوة إقليمية شرق أوسطية متخلية -ولو موقتا- عن طموحها القديم في الانضمام إلى منظمة دول الاتحاد الأوروبي، وهو الطلب الذي حظي بدعم أميركي، إلا أن الدول الأوروبية رفضته منذ أكثر من عقدين على لسان (جيسكار ديستان) الرئيس الفرنسي السابق ورئيس لجنة صياغة الدستور الأوروبي الذي قال بأن الاتحاد الأوروبي "ناد مسيحي"!
ولذلك تحاول تركيا تحقيق طموح بديل بزعامة قيادة الشرق الأوسط سياسيا؛ لتستعيد أهميتها الاستراتيجية الممتدة لقرون عبر التاريخ العثماني "الاستعماري" للمجتمعات العربية، من خلال السياسات التي ينفذها حزب العدالة والتنمية الذي هو النموذج السياسي الإسلامي المطلوب أميركيا.
وتستفيد تركيا اليوم من سياسة اقتناص الفرص، من خلال النظر بعين الأمل باتجاه أوروبا والنظر بعين الطموح باتجاه الشرق الأوسط، ولذلك لم تجد تركيا مكسبا سياسيا في الانضمام إلى التحالف الدولي ضد الإرهاب، سوى بعد عام حيث أعلنت تركيا مؤخراً فتح قاعدة (إنجرليك) أمام سلاح الجو الأميركي لاستخدامها في الضربات الجوية ضد تنظيم "داعش" داخل سورية والعراق، ويأتي هذا القرار في إطار الحديث حول صفقة تركية أميركية تنطوي على تأكيدات تركية المشاركة في التحالف الدولي ضد الإرهاب، إلا أن السؤال المطروح هو: ما الأسباب التي دعت تركيا لاتخاذ قرار الحرب على تنظيم داعش وإقامة منطقة عازلة داخل الأراضي السورية؟
من نافلة القول إن وراء أكمة "الإرهاب" ما وراءها، فثمة أطراف دولية مستفيدة من هذا الفكر الذي وقوده المتطرفون من شباب المجتمعات الإسلامية، وقد وجدت الحكومة التركية نفسها في مرمى الانتقاد منذ قيام الثورة السورية حيث تتشكل علامات الاستفهام حول عبور إرهابيين من جميع دول العالم إلى سورية عبر تركيا، وهو الدور ذاته الذي كان يقوم به النظام السوري بعد الغزو الأميركي للعراق، ولم تسلم الحكومة التركية من انتقاد الإعلام التركي، غير أن الغاية التركية من هذا القرار لم تكن نفي تهمة التغاضي عن الإرهاب فقط، بل خوفا من تهديدين تعدّهما خطرين لا يمكن التغاضي عنهما.
ولذلك فإن السبب الأول وراء اتخاذ هذا القرار استراتيجي يتمثل في قطع الطريق أمام أي احتمال لقيام دولة مستقلة للأكراد، وهم أصحاب القومية الأكثر في العالم الذين لا يملكون دولة خاصة بهم، إذ إنه بعد قيام الجمهورية التركية على مبدأ القومية التركية، أُلزمت الأقليات الأخرى باستخدام اللغة والثقافة التركية على المستوى الرسمي، لكن أسلوب التعاطي التركي مع المسألة الكردية خطا خطوات إيجابية في الحقوق الثقافية والسياسية بعد الحرب الأميركية على العراق؛ وذلك بسبب خشية تركيا من انعكاس تنامي النزعة الاستقلالية لدى أكراد تركيا بتأثير من أكراد العراق الذين يتمتعون أصلا بحكم ذاتي في إقليم كردستان العراق.
وقد واجهت الدولة التركية المطالبات الانفصالية الكردية بالعنف والقوة، ولا تزال هذه المواجهة قائمة، تهدأ حينا وتثور حينا آخر في الداخل التركي، لكن المواجهة أصبحت حتمية بعد الثورة السورية على إثر الانتصار الذي حققه أكراد سورية على تنظيم داعش في مدينة عين العرب -كوباني المحاذية للحدود التركية-، وهذا ما يفسر العلاقة المحتملة بين دعم التنظيم أو التغاضي من قبل الجانب التركي.
أما السبب الثاني فهو أمني ويتمثل في خشية تركيا الحقيقية من انتقال العمليات المسلحة إلى الداخل التركي، سواء من جانب أعضاء تنظيم داعش أو من جانب المنتمين لحزب العمال الكردستاني أو غيرهم، وهنا يمكن القول إن دخول تركيا في الحرب ضد الإرهاب سيكون محوريا وحاسما، ولكن تحكمه الجدية والغاية السياسية، على الرغم من أن القرار التركي سيسهم في تحسين صورتها في مسألة الحرب على الإرهاب.
أما السبب الثالث فهو سياسي ويتمثل في رغبة الحكومة التركية الممثلة بحزب العدالة والتنمية الحاكم في تقويض التأثير السياسي للأكراد داخل تركيا، خاصة بعد الدور الحاسم الذي لعبه حزب "الشعوب الديموقراطي" المعارض في الانتخابات البرلمانية، والذي يتكون معظم أعضائه من المنتمين للقومية الكردية، وذلك بهدف إعلان مرتقب عن انتخابات مبكرة قد تتيح لحزب التنمية الحاكم استعادة الأغلبية البرلمانية التي تخوله لتغيير الدستور وتوسيع صلاحيات الرئيس الحالي رجب طيب إردوغان.