ما الذي يفعله المسرح بالبشر؟ شيء مذهل وعجيب هذا الصنف من الفنون -بل هو أبو الفنون- وما يفعله من تغيير على كل المستويات؟ فالشيء المذهل هو قوته على علاج الأطفال التوحديين.

كان قد سبق للمخرج المسرحي الكبير عباس أحمد أن أسس لهذه التجربة، وحضرتها أنا في جميع مراحلها عام 2005، وكيف أنه جمع الأطفال ذوي الاحتياجات الخاصة وعمل على تدريبهم في فترة ليست بالقصيرة شهدت عناء وصبرا من رجل أحب المسرح وأحب الإنسان في الدرجة الأولى. حينها تأكدت أن هناك سرا خفيا بين المسرح ومعالجة هؤلاء الأطفال، فحملت ملفا كاملا فيه دراسة عن مشروع عباس أحمد وذهبت إلى مكتب سمو الأمير طلال بن عبدالعزيز في المركز الدولي لرعاية الأمومة والطفولة، وشرح المخرج ما وصل إليه من نتائج للرجل المسؤول في هذه المؤسسة آنذاك، ولكن الأمر انتهى إلى لا شيء، ربما لأن المرتزقة كثيرون والمدعون كذلك، ففقدنا المصداقية على كل المستويات عند اتخاذ القرار.

عايشت تلك التجربة في بدايتها ورأيت كيف أن الطفل التوحدي لا يتحمل أي صوت بجانبه؛ لأن الأصوات تمثل ضجيجا مزعجا داخل رأسه. كما أنه لا يمكن أن يترك أحدا يمسك به أو يضع يده عليه. كما أن انعزالية التوحدي شديدة المراس، إذ إنه لا يندمج مع أحد ولا يستطيع الاستجابة لأي فعل مهمها صغر حجمه أو كبر ولا لأي بشر منا. وعلى ذلك أدركت صعوبة المهمة، وحين تخصصت شقيقتي في الحالة التوحدية في دراستها اقتربت منها بفضول الفنان والمبدع الذي يجب أن يحس ويتماس مع كل شيء يصادفه. فمكثت أرافقها ثلاثة أشهر في تدريبها لطفل توحدي ومن خلال هذه الشهور الثلاثة من التعب والتدريب والصبر والمتابعة وتدوين الملحوظات وأشياء كثيرة، نجحت حينها في أن تجعله يفتح الصنبور الذي كان يعجز عن لمسه أو الاستجابة لأي طلب. حقيقة شيء مرهق وبعيد المنال في أن يجلس المدرب ثلاثة أشهر لكي يحظى بأية استجابة لفتح صنبور على سبيل المثال، وكانت نتيجة رائعة بالنسبة للمدرب حينها!

المسرح في عمومه يقوم على الاستجابة وهي الركيزة الأولى في الفعل المسرحي، فكيف بنا أن نجعل طفلا توحديا أو معوقا يقوم بعمل مسرحي متكامل يرقص ويغني ويمثل ويعتلي خشبة المسرح؛ فيمثل للأوامر المسرحية وينفذها. وهذا ما دعاني إلى أن أكتب هذا المقال لأضع بين أيديكم هذه الدهشة؛ وبيوتنا مملوءة بالتوحديين والله يعلم كم المعاناة التي يعانيها ذووهم جزاهم الله الجنة.

في تجربة عباس أحمد كان الطفل التوحدي لا يمكنه الذهاب إلا مع أمه، ثم بعد التدريبات أصبح الطفل يذهب إلى المسرح بمفرده. كما أن وسيلة المخرج الوحيدة في العقاب كانت تهديده للواحد منهم بالإيقاف أو الطرد ولمدة ثوان حينها يمتثل لكل الأوامر، وأهمها المنبه والاستجابة التي يعتمد عليها المدرب؛ لأنهم أحبوا المسرح وتعلقوا به. وقد قدم بهم المخرج حينها عرضا استحسنه الجميع وكان عام 2005 تقريبا.

وفي هذه الأيام، وفي مهرجان (آفاق المسرح) كان هناك حقل من حقول المسابقة لذوي الاحتياجات الخاصة وكانت المتبنية للمشروع المخرجة أميرة شوقي فقدمت مسرحية (الواد اللي في راسه عرايس) فكان عرضا مسرحيا مبهرا للغاية على كل المستويات، حيث اشترك في العرض أكثر من خمسين ممثلا من ذوي الاحتياجات الخاصة! وكان عرضا استعراضيا شمل التمثيل وألعاب السيرك والغناء والرقص، وكل فنون الاستعراض المسرحي!

حقيقة حمدت الله أنني مكان المشاهد الذي يجلس في مكان مظلم لكي لا يرى أحد دموعي؛ فقد بكيت كثيرا مما تركه هذا العرض المسرحي في وجداني من انفعالات لم تحدث لي عبر مشواري المسرحي، وأنا أشاهد أطفالا تتراوح أعمارهم بين السادسة والثامنة عشرة، أي جميع مراحل الطفولة، وكل واحد منهم لديه إعاقة خاصة وتعجبت من تسخير كل إعاقة للدور الذي تقوم به! ورأيت كيف يرقص الصم على إيقاعات موسيقية فلا يخطئون منها نغمة. وكيف أن التوحديين منهم يمثلون ويتخاطبون مع المخرجة ومع الجمهور ثم يتوجهون إلى لجنة التحكيم ويقدمون لهم شكرهم وتقديرهم.

حقيقة المسرح هو السحر المشروع، هو من يعمل على التغلغل في أعماق النفس البشرية عبر آليات يصعب ذكرها في هذا المقام؛ فكل ما يهمنا هو الالتفات إلى المسرح لاستخدامه في علاج مثل هذه الحالات وتقدمها، فقد شاهدت في المرحلة الأولى من المهرجان هذا العرض، وتم تصعيده إلى المرحلة الثانية وكنت من ضمن لجان التحكيم ورأيت التقدم الواضح والبارز والمذهل على هؤلاء الأطفال بين المرحلة الأولى والثالثة؛ مما جعلني أبكي وبغزارة طيلة العرض –ومدته ساعة كاملة- من شيء لا أعرفه سوى هذه المعجزة.

حقيقة لم يبق مشاهد من الجمهور إلا وبكى وانفطر قلبه من فيض المشاعر التي يصعب وصفها؛ فأين نحن من هذه التجارب وأين مسرحنا منها؟