"الخاسر الأكبر" هو عنوان برنامج أمريكي شهير، يكون الفائز فيه هو الخاسر لأكبر نسبة من وزنه خلال أسابيع البرنامج.
يهمني البرنامج وأتابعه بشكل متقطع منذ سنوات؛ لأني امرأة أولاً، ولأن حياتي هي مجموعة من التجارب مع خسارة الوزن ثم استعادته، مما يجعلني أشعر بالتعاطف والشراكة مع المشاركين بالبرنامج، وأعجب بهم وبإصرارهم وبخساراتهم الفائزة.
وكثيرا ما كنت أتأمل في المفارقة الذكية التي يحملها عنوان البرنامج، إذ كيف لصاحب الخسارة الأكبر أن يكون هو الفائز؟ بالطبع في حالة البرنامج يأتينا الجواب سريعاً، بسيطاً، مباشراً.
لكن التأمل أكثر في تجربة أبطال البرنامج، وتفاعل الناس معهم، ثم التأمل المجرد بالفكرة بحد ذاتها، تجعلنا نصل لنتيجة غريبة ومفارقة بعض الشيء، فكثير -إن لم نقل معظم- خساراتنا هو الفوز بعينه، وقد أذهب أكثر في تبني الفكرة، وأقول إنه يندر أن تجد فوزاً ليس ثمرة لخسارة ما.
في تجربتي الشخصية، كنت قد بنيت خلال سنوات حياة جيدة بمقاييس بلدي، من حيث العمل والحياة الشخصية والاجتماعية والمادية، ثم في لحظة صحو تخليت عنها جميعاً، خسرتها، لأحظى بأكبر فوز في حياتي، وهو الرضا عن الذات، وعن أخلاقية الخسارة التي منيت بها.
فأن تخسر بيتاً وعملاً وسيارة، مقابل ألا تكون في صف القاتل، أنت الرابح بالتأكيد.
على المستوى العام أيضاً لا بد أن يكون الفوز مبنياً فوق حجارة الخسارات، كأن تفوز في بناء البلد الذي تحلم به إذا خسرت انتماءاتك الصغيرة، وأفكارك الضيقة، وأحقادك القاتلة.
في البلدان العربية التي وصلتها رياح الربيع العربي كانت الخسارات الأكبر في البلدان التي لم يقبل أحد فيها تلقي خسارات أصغر، لم يقبل بشار الأسد أن يخسر كرسيه، فخسر كل شيء، وخسر السوريون جميعاً كل شيء، خسر زين العابدين بن علي وزمرة صغيرة من حوله، فكانت تونس الأقل خسارة بين بلدان الربيع العربي، قاوم علي عبدالله صالح الخسارة الشخصية قليلاً، فخسر اليمن قليلاً، عقل معمر القذافي لم يتحمل فكرة الخسارة، فخسرنا ليبيا لعشرات السنين، اعتدال الخسارة والربح في مصر جعل المحصلة فيها بما يخص الناس وحياة الناس حالة وسطاً بين تونس واليمن، وهكذا توازنت معادلة الربح والخسارة بشكل دقيق كالأواني المستطرقة.
يذكر السياسيون والمثقفون في المنطقة العربية بكثير من التبجيل والاحترام رئيساً عربياً جاءته السلطة على طبق من ذهب، لكنه أجرى انتخابات وسلم السلطة للحكومة المنتخبة، وهو المشير عبدالرحمن سوار الذهب، الذي كان رئيساً لهيئة الأركان في الجيش السوداني، حين حدثت انتفاضة 1985، فاستلم مقاليد السلطة في البلاد، لفترة مؤقتة، وسلم الحكم للصادق المهدي بعد فوز الأخير بالانتخابات.
هل من فوز في تاريخ السياسة في هذه المنطقة أكبر من هذه الخسارة؟
الخسارة والربح بهذا المعنى يمكن أن نسحبهما على كل شؤون الحياة، ففي عموم منطقتنا العربية نتمسك بكثير من العادات والتقاليد والأفكار، رغم معرفتنا العقلية الواعية بأنها تعيق تقدمنا، ورغم معرفتنا بأننا نخلط بين الشرائع والأعراف، تخيفنا فكرة التخلي عنها، نعتقدها خسارة، وهي في الحقيقة الخسارة التي تعني الربح.
في الأدبيات الصوفية تدور كثير من النصوص على فكرة أساسية هي: (السعادة هي التخلي) وحتى لو لم تكن صوفياً فتخليك عن أشياء وأفكار وأشخاص وأماكن، ليس فقط سبباً للسعادة، بل وللفوز أيضاً، وكثير منّا يتمسك بما لا يستحق التمسك، بدءاً من رجل وامرأة يعيشان جحيماً زوجياً، وانتهاءً برئيس دولة لا يستطيع خسارة كرسيه ولو كان الثمن أرواح الملايين من شعبه.
وبين هذا وذاك، يقع رجل يحرم مستقبله من فرصة رائعة لأنه لا يجرؤ على خسارة عمله البليد الكريه الحالي، وآخر متمسك بفكرة بالية ورثها عن أبيه ويعتقد أنها الحقيقة المطلقة، ولا يسمح لعقله بمناقشتها، ويتركها لتعيق حياته وتطوره.
هناك جملة معبرة وبليغة لبرنارد شو يمكنها أن تفسر كثيرا من حالات التمسك المعيقة: "اعذروه، فهو يظن أن أعراف قبيلته هي قوانين الطبيعة".
بهذا المعنى، وبكل المعاني التي وردت في هذا المقال، أستطيع أن أختم بدعاء: اللهم اجعلنا أكبر الخاسرين.